شهدت مدينة بروكسيل حيث مقر الاتحاد
الأوروبي أواخر شهر مايو الماضي زيارة تعريفية أعدّها الاتحاد الأوروبي عبر بعثته
المقيمة بالعاصمة السودانية الخرطوم لوفد مكوَّن من حوالي 9 أعضاء من شباب الأحزاب
السياسية السودانية المختلفة يساراً ويميناً ووسطاً.
الزيارة فيما يبدو – من ظاهرها – كانت
تستهدف التعريف بمؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتدريب أعضاء الوفد -باعتبارهم شباباً- على
قضايا الديمقراطية وكيفية مواجهة تحدياتها وتجارب الانفصال والحوار السياسي وأدوات وفنون الاتصال الجماهيري.
وتشير متابعات (سودان سفاري) إن
الدعوة جاءت ضمن برامج وترتيبات قام بها مكتب "تشجيع الديمقراطية"؛ وهو
جزء من البرلمان الأوروبي وقد استمر البرنامج لما يقارب الأسبوع، فى الفترة من
السابع والعشرين من مايو إلى الأول من يونيو الحالي، وهو برنامج بصفة عامة لا يثور
غبار كثيف بشأنه، غير أنَّ الأمر المثير للقلق، وما أكثر ما يثير القلق حين يتعلق
الأمر ببرامج (ناعمة الملمس)، خفيفة ورشيقة كهذا البرنامج أنّ منظمة العفو الدولية
(أمنستي) التى أفسح لها البرنامج مساحة مقدرة -والأسباب بالطبع معروفة!- خاضت فى
الشأن الحقوقي السوداني وتحدثت باستفاضة وبالتفصيل عن تقارير انتهاكات حقوقية
اتهمت بها الحكومة السودانية.
وربما كان من الطبيعي -فى مثل هذه
المناسبات- والحاضرين من الشباب، أن يحرص معدّو البرنامج على الطرق بشدة وبعنف على
هذا الجانب فى محاولة لاستغلال سانحة البرنامج التعريفي لحشو الأذهان الشبابية بما
قد يثير قلق هؤلاء الشباب، ولكن كانت الطامّة الكبرى أن مندوب منظمة العفو الدولية
فُوجئَ بعد أن أنهى تقريره المطول هذا بأحد الشباب المشاركين فى البرنامج يتساءل
عن ما إذا كانت المنظمة قد رصدت بالمقابل الانتهاكات الحقيقية والفظائع غير
المسبوقة التى ارتكبها متمردو الجبهة الثورية وبعض المتمردين الآخرين؟
السؤال -لدهشة الحضور- جعل مقدم
التقرير يتلجلج وبالكاد تخرج الكلمات من لسانه ولم يجد مخرجاً سوى القول إنهم
يعملون على إعداد تقرير بهذا الصدد ما يزال قيد الإعداد!
كان من الواضح أن البرنامج ذي
الطبيعة التعريفية الموضوعية (البريئة) قد سقط فى أول امتحان حقيقي، حين تحاملت
منظمة العفو الدولية على الحكومة السودانية غاضّة الطرف عن إنتهاكات المتمردين. فكما
أشرنا فى صدر هذا التحليل فإن فكرة البرنامج والمجموعة التى أُختيرت للمشاركة بحيث
ضمت كل أطياف السياسة السودانية، جيّدة ولا غبار عليها طالما أنها ذات منحى
تدريبي، يتحلّى بالتوازن وبالموضوعية، ويعلِّي من قيمة الحوار.
ظاهرياً هذه أمور لا ينازع بشأنها
أحد، ولكن كان خطأ معدي البرنامج الذى أفسدَ (الطبخة) كلها أنهم جعلوا محور
البرنامج تقريراً حقوقياً يدين الحكومة السودانية، فى حين أن إنتهاكات المتمردين
الطازجة التى لم تجف بعد آثارها هي مجرد (تقرير واحد) وهو ما يزال حتى الآن (قيد
الإعداد)!
أكثر من ثلاثة أسابيع كانت قد مضت
عقب اعتداءات أبو كرشولا والإعدامات وعمليات الذبح العلنية التى تمت على مرأى
ومسمع العالم ومنظمة العفو الدولية مشغولة بانتهاكات الحكومة السودانية ولم (تتفرغ
بعد) لكتابة (سطر واحد) لما جرى من قبل المتمردين فى جنوب كردفان!
هذه فى الواقع هي أزمة العقلية
السياسية الغربية؛ النظر الى الأشياء بأكثر من عينين والاستماع الى الأمور بأكثر
من أذنين، فهل ياتُرى حقق البرنامج -بمعياره المزدوج هذا- هدفه؛ وهل كان المقصود
من كل ذلك هو عزف سيمفونية الانتهاكات الحكومية لإطراب الأُذن الشبابية السودانية
الحاضرة؟
إن الأمر هنا أشبه بمَن يبني بيتاً
جميلاً بِحُرّ ماله وجهده وعرقه، ولكنه (يسرق أثاثاً) ليتباهى به! فالاتحاد
الأوربي فيما بدا لنا (يخطط) بدقة وبشيء من الروِّية والأناة لصناعة شباب سياسي
سوداني (متشرِّب) بالقيم الأوروبية، وضرب عدد من العصافير بحصاةٍ واحدة عبر مثل
هذه البرامج التى ظاهرها قضايا موضوعية جيّدة وباطنها قضايا تخصه وتخدم أهدافه
وأهداف (جهات أخرى)!
تعليقات
إرسال تعليق