قوى الإجماع ورحلة صيد فاشلة فى جوبا!

منذ يوم الأربعاء الثامن من مايو المنصرم وقيادات تحالف المعارضة المعروفة بقوى الإجماع الوطني تشعر بآلام في الصدر وتشويش فى الذهن وضيق فى النفس السياسي؛ فالأحداث الجارية في أبو كرشولا غربيّ السودان وضعتهم فى مأزق سياسي كبير.
ترك كل خصوم الحكومة خصوماتهم وأصبحوا جبهة واحدة ضد العدوان. كما أن هزيمة الثورية -كما كان يدور في ذهن القادة الحائرين- مسألة وقت فقط، ومرحلة ما بعد الهزيمة باتت تضغط على صدر القوى المعارضة بقوة، وشرايينها السياسية تزداد ضيقاً والعرق يتصبّب على الجباه التائهة!
كيف إذن يمكن أن يكون المخرج؟ فهم لا يعرفون ماذا كان قرار حلفائهم فى الثورية باحتلال المنطقة استراتيجياً يإمكانهم المحافظة عليه ومن ثم المساومة به أم أنه مجرد تكتيك.
كما لا يعرفون كيف ستكون طريقة تعاملهم مع الحكومة وهم لا يستطيعون الوقوف معها مخافة خسران الثورية؛ كما أنهم لا يستطيعون الوقوف مع الثورية ليس مخافة الحكومة فقط، وإنما مخافة دولة بكاملها شعباً وأرضاً وتاريخاً، وفى مثل هذه المنعطفات التاريخية عادة فإن التاريخ يسجل ولا يرحم ولا يمحو أو يصفح!
أخيراً وجدها القيادي بالتحالف، المحامي الأقل حظاً فى اللباقة والحصافة السياسية والذي أُوكِلت له مهمة قيادة المكتب الإعلامي للتحالف. "فلنبدأ من مقتل سلطان دينكا نقوك، كوال دينق" ، هكذا قال المحامي كمال بضحكة نصفها به قدر من المكر ونصفها الآخر بدا كآهة متحسرة على مشهد سياسي لا تتوفر فيه أدنى جدوى سياسية للمعارضة فالخسائر فى كل مكان، والسلطة الحاكمة اكتسبت مؤيدين جدد، والتعبئة والاستنفار اتخذ مساراً عفوياً تلقائياً ولا مجال لهزيمة جيش يقف وراءه كل شعبه.
القيادي كمال عمر قال لرفاقه فى ذلك اليوم إن المخرج الحالي الوحيد هو محاولة السفر الى جوبا. زيارة ظاهرها العزاء فى السلطان كوال، ولكن باطنها أمور أخرى مكانها القاعات المغلقة، والأحاديث الهامسة.
وافترق الجميع يومها وقد ركنوا جميعاً للمقترح، فهو لا يكلف شيئاً ويتيح لهم الابتعاد عن نيران التعبئة الساخنة واللاهبة، ويقلل أو يرطب سخونة الحرج السياسي في أجواء الخرطوم الصيفية الساخنة التى بلغت درجة الحرارة السياسية فيها درجة مماثلة لدرجة حرارة الأجواء، فهي ببساطة درجة غليان الماء. وتعرف قوى الإجماع –بحكم التجارب والخبرات– أن هذه الدرجة لا يجيء معها أيّ محاولة (تبريد) ولو نزلت المئات تحت الصفر.
فى صبيحة الخميس التاسع من مايو تحرك وفد قوى الإجماع نحو مقر سفارة دولة جنوب السودان في الخرطوم ولم يستغرقهم الأمر إجراءات مطولة فقد كان عنوان زيارة سفارة: تقديم العزاء لسفير جوبا وتسجيله على الدفاتر التى عادة ما تعد لمثل هذه المناسبات كأمر بروتوكولي مراسيمي مألوف.
وعلى أبواب سفارة دولة جنوب السودان ترجل القادة الذين كان يتقدمهم كمال عمر والذين طلبت منهم الجهات الإدارية المسئولة فى السفارة ألا يتجاوز عددهم الخمس.
وفى مكتب السفير، وفي قاعة باردة جلس السفير الجنوبي (ميانق دينق) الى القادة الخمس وهو يصغي الى كلمات العزاء من قادة الوفد والتي ابتدرها المحامي كمال عمر معدداً مآثر الفقيد سلطان دينق، وربما علت الدهشة وجوه بعض رفاقه حين أشار كمال الى ان الفقيد كان مسلم الديانة.
السفير (ميانق) لم تبد على ملامحه وتقاطيع وجهه الصامت أية تعبيرات، فتلك طبيعة عمله وطريقة تعامله، تدرب عليها بما يكفي وأصبح ماهراً فيها. وتناوب بقية الأعضاء كلٌ بحسب ما أُتيح له ترديد كلمات العزاء التى سُجلت فى خاتمة اللقاء على مضابط السفارة ليُرسَل جزء منها ضمن التقارير الدورية التى عادة ما ترسلها البعثات الدبلوماسية الى عواصمها.
ولا أحد يدري بالطبع كيف مضت كل الدقائق في ذلك اللقاء وما هي تفاصيل ما قِيل مباشرة، أو ما قيل ضمناً، ولكن رئيس الوفد كمال عمر فيما يبدو وجدها سانحة –طالما أن السفير الجنوبي تقبل منهم هذه التعازي المعبرة بهذا القدر من الترحيب وتفضل عليهم بوقت ثمين، لكي يطلب توسيع نطاق العزاء ليتجاوز الوفد الحدود ويقدم العزاء للقيادة الجنوبية مباشرة فى جوبا.
أغلب الظن أن هذا الطلب راود القيادي كمال عمر لمّا أحسَّ (بدفء اللقاء) و (حرارة الكلمات) والمناخ المعتدل داخل مكتب السفير الذى أنساه حرارة الجو السياسي في أبو كرشولا والخرطوم والهزيمة الداوية الوشيكة للجبهة الثورية هناك. السفير الجنوبي سرعان ما أبدى موافقته على الطلب، فما الذي يضير من  ذهاب وفد سياسي سوداني الى جوبا لتقديم واجب عزاء؟ الأمر لا يتطلب أكثر من تأشيرة دخول، وتنبيه عاجل للقيادة في جوبا أن (بضاعة سياسية) بسعر مناسب ومواصفات معقولة فى الطريق إليكم!
لم يستغرق الأمر بعد اللقاء المطول فى السفارة ضحى الأربعاء التاسع من مايو سوى أربعة أيام، كانت تأشيرات الدخول قد وُضعت على جوازات الوفد، وأحيطت جوبا علماً بتاريخ الوصول وحزمَ الوفد حقائبه ليصل صبيحة الاثنين الثالث عشر من مايو الى جوبا.
ولأن من الطبيعي في مثل هذه الأجواء ان تستثمر جوبا فى الزيارة فإن وفوداً إعلامية وسياسية عديدة تم رصها بعناية فى المطار، فقد نجح أحد الماكرين فى قيادة الحركة الشعبية الجنوبية في إيهام العديدين بأن وفد سودانياً معارضاً سيصل الى جوبا للتباحث حول أمور بالغة الأهمية وأن الوفد بالنسبة لجوبا – كما قال ذلكم الماكر – هو عدوّ عدوّنا! وأنَّ عدوّ عدوّنا كما تعلمون هو صديقنا بالضرورة!
عقب وصول الوفد وسط ذلك الزخم الإعلامي والذي لم يستمر طويلاً بعد أن أدرك مراسلي الفضائيات ووكالات الأنباء المتشوقين طويلاً لما سيفعله الوفد، وأنَّ الوفد يقوده كمال عمر وهو بالنسبة إليهم غنيّ عن التعريف؛ انفضَّ السامر في المطار!
أمين عام الحركة الشعبية باقان أموم أحسّ بالبرود الذى انتاب مراسلي وكالات الأنباء والصحفيين، لهذا سارع بفتح صالة كبار الزوار فى مطار جوبا ليلج إليها الوفد . ولكي لا يضع أموم نفسه في موضع يقلل من مكانته السياسية، فقد دفع بالسكرتير الإعلامي الخاص به، عاطف كير ليكون (وفداً مرافقاً) للوفد السوداني السياسي الكبير.
ولم يقصِّر عاطف كير -بقدر من  الدهاء- في وضع الوفد القادم في امتحان مباشر بعقد مؤتمر صحفي في صالة كبار الزوار سمح فيه لإثنين فقط من الوفد وهما (كمال عمر) و (عبد الجليل الباشا) بالتحدث الى الصحفيين عن أهداف الزيارة!
الوفد وجد نفسه يدور فى حلقة صغيرة فارغة مدارها كله تقديم واجب العزاء وفي الوقت نفسه ظل الصحفيين الذين صبروا على الموقف يتساءلون بإلحاح عما إذا كان كل هذا العناء وصالة كبار الزوار والحشد الإعلامي والسياسي لتقديم واجب العزاء! بل إن بعضهم تساءل عما إذا كان واجب العزاء يستلزم (مؤتمراً صحفياً)؟ هذا خلاف تساؤلات بديهية ضجت بها القاعة ولكنها لم تجد الإجابة حول مستوى القادة القادمين الذين جُعِلَ منهم (برتوكولياً) في مستوى السكرتير الإعلامي لأمين عام الحركة الشعبية!
كمال عمر وصلت الى مسامعه بعض هذه الهمهمات وكاد أن يتمعّر وجهه غضباً لولا أن عاطف كير عاجله بإبتسامه استوائية بدت أكثر عزاءً من كلمات العزاء التى قالها الوفد!
عقب انفضاض المؤتمر الصحفي الذى لم يخرج منه المراسلون بشيء يمكن إرساله على عجل لوكالاتهم، أخذت الوفد سيارة حكومية من طراز متواضع الى فندق (نمولي) ليكون نزلاً بروتوكولياً للوفد. وبصرف النظر عن (درجة الفندق السياحية) فإنه على أية حال وجد فيه الوفد راحة قصيرة لم تمتد لأكثر من نصف ساعة ليفاجأ الوفد بدخول أمين عام الحركة الشعبية أموم إليهم!
مفاجأة الوفد بدخول أموم رسم لوحتها صحفي أفريقي كان يرابط فى الفندق بحثاً عن أحد زملائه الذين جاءوا خصيصاً من دولة افريقية مجاورة لتغطية الزيارة بدعوة من وزارة الإعلام الجنوبية. ودلل الصحفي بأن حضور أموم بدا لأعضاء الوفد مفاجئاً -ودون سابق إخطار- لأنّ أحد أعضاء الوفد كان قد راح في سبات عميق، واضطر للإستيقاظ فجأة على وقع الجلبة التى عمت المكان بقدوم أموم.
وبطبيعة الحال تصعب معرفة كل تفاصيل ذلك اللقاء غير المعلن والمفاجئ ولكن من المؤكد ان أموم استطاع أن يعزف بمهارة -كعادته- على وتر حكومة المؤتمر الوطني وكونها هي أس الأزمة بين البلدين وأنها تسعى لإذلال دولة الجنوب.
أموم أيضاً –كما كشف بنفسه لاحقاً لأحد الصحفيين– أكد للوفد أنهم لا يريدون حرباً مع الخرطوم لأن ذلك يضر بقضية التنمية فى بلادهم، وأنهم لا يدعمون الثورية . ولعل أكثر ما يستلفت الانتباه في ذلك اللقاء الذي شهده فندق نمولي، أن المتحدث الوحيد فيه كان أموم، والمستمع الوحيد أعضاء الوفد ولسوء حظ الوفد فإن أموم كشف عن كل ذلك -بعد نصف ساعة فقط من اللقاء- لأحد المحررين في تلفزيون جنوب السودان متباهياً بأنه (أعطى درساً) لساسة شماليين!
ولعل الأمر الأكثر غرابة فى كل ملابسات هذه الزيارة أنها اتصفت بقدر من ما يمكن ان نطلق عليه (غلظة سياسية) قصدت الحركة الشعبية مسبقاً ان تتعامل بها مع الوفد، فهي تعرف أن أمثال كمال عمر كانوا أعدائهم اللدودين منذ سنوات قلائل، ووجدتها سانحة لإذلالهم غاية الإذلال. فبعد لقائهم أموم و (استماعهم) لمحاضرته السياسية الموجزة كان عليهم التقاء أحد أبناء أبيي وأحد أقرباء السلطان القتيل وهو دينق ألور.
ومن أسوأ ما اخترق آذان أعضاء الوفد أن ألور هو الآخر أعاد إسماعهم ذات محاضرة أموم بحذافيرها وأضاف إليها -
بأسلوبه الخاص- إتهامات صريحة للخرطوم بالتورط فى مقتل السلطان كوال ووجدها سانحة ليقدم لهم (رواية تفصيلية مطولة) قال إنها هي حقيقة الوقائع التى جرت في ملابسات مقتل السلطان.
ومضى ألور فى فذلكة تاريخية سياسية أثارت ضجر الوفد المنهك الذى جاء فقط لتقديم العزاء، فإذا به يحتاج هو نفسه الى عزاء! كما بدا وكأنّ قيادة الحركة الشعبية تمارس (نوعاً من التعذيب) للوفد الذى اختار المجيء طائعاً بغرض التسويق السياسي فى جوبا مع علمه أن جوبا لم تعرف سوق جيّد يعج بالبضائع السياسية ذات المواصفات المطلوبة.
ألور هو الآخر سارع بعد انتهاء اللقاء لإعداد تقرير ضافي (بما اسمعه للوفد السوداني المعارض) وقدمه على عجل للرئيس كير لأنه يعلم أن الوفد سيلتقي الرئيس كير في وقت من الأوقات ضمن برنامج الزيارة .
تقرير ألور الذى تناقلته بعض الأيدي طباعةً وإعداداً وتنسيقاً لم يحظ بالسرية الكافية، ولهذا أصبح بعد لُحيظات مثار تندُّر القادة الجنوبيين وإلتقاط بعض المراسلين المرابطين قرب المقار الرسمية في جوبا؛ ففي جوبا فإن آخر ما يمكنك البحث عنه عنه هو السرية!
ومن المؤكد أن ضجيج الكلمات والعبارات التى اخترقت آذان الوفد جعلته يتمنّى لو أنه اكتفى بالتعزية التى قدمها لسفير دولة الجنوب فى الخرطوم، إذ أنه وبعد لقاء كلٌ من أموم وألور كان فى انتظارهم أحد مسئولي أبيي من الجانب الجنوبي وهو إدوارد لينو، إذ على الرغم من أن لينو مريض ويستشفِي في جناح خاص بفندق (جوبا فليدج) إلا أن الوفد كان ملزَماً بالتقائه هو الآخر والاستماع إليه، وإزداد الأمر سواء في لقاء لينو حين أصر الأخير على إعطائهم (سرداً تاريخياً) للأزمة السودانية الجنوبية منذ ما قبل نيفاشا 2005 ليضطر الوفد للاستماع الى التاريخ (من وجهة نظر جنوبية) محضة كانت بالتأكيد تستبطن إهانة الوفد ضمنياً، إذ أن السرد كله كان حول (الشماليين) والظلم والخداع والسلسلة المعروفة من الحكاوي الجنوبية المعهودة.
لينو هو الآخر أمرَ أحد مرافقيه بسرعة إرسال (تقرير وافي) عما قاله للقادة القادمين الى الرئيس كير قبل ان يصل إليه أعضاء الوفد (حتى يكون في الصورة). وبالفعل تم ذلك ليتحرك الوفد وقد بلغ به التعب والإنهاك مبلغاً خرافياً من كثرة الاستماع الى العبارات المهينة المغلفة بسولفان سياسي ماكر، ولهذا وحين وطأت أقدام الوفد القصر الرئاسي الذي يجلس فيه الرئيس الجنوبي كان يتنفس الصعداء، إذ على الأقل هذه (آخر أحزان الزيارة) وبعدها يستطيع الوفد ان يخلد للراحة ويبتعد عن هذا الضجيج السياسي المزعج.
الرئيس كير –لسوء حظ الوفد– أعاد على مسامع الوفد كل ما سمعوه من القادة السابقين من واقع التقارير التى وصلت إليه ولكنه – لسبب ما – أتاح للوفد التحدث ليجدها الوفد فرصة (نادرة) للحديث عن كل مثالب المؤتمر الوطني وتورطه في جريمة اغتيال كوال وتورطه في العديد من الجرائم الأخرى.
كان واضحاً أن الوفد قد تمت (تعبئته) سياسياً من قبل أموم وادوارد لينو حتى إذا ما إلتقى الرئيس كير في نهاية هذه السلسة من اللقاءات يقدم إدانة سياسية واضحة لما يسميها حكومة  المؤتمر الوطني.
لقد بلغ سوء التقدير السياسي لدى قيادة الوفد أنها لم تدرك هذه الحقيقة إلا بين يديّ الرئيس، حيث سجلت مضابط الرئاسة إدانات موثقة من قبل قوى سودانية معارضة (من بينها قيادي إسلامي) إدانة لبلادهم أمام رئيس دولة أجنبية!
ولهذا فقد ترك لهم الرئيس كير -بخلفيته الاستخبارية- الحبل على الغارب ليسُبّوا حكومة بلادهم ويدينوا دولتهم في حادثة مقتل كوال دينق متحاشين تماماً التطرق الى أي أمر آخر قد يغضب جوبا، وبلغ سوء تقدير الوفد الزائر ذروته حين قفل راجعاً الى الخرطوم وقد بدأت تفاصيل الزيارة تتطاير هنا وهناك بحسابات مدروسة بعناية من قبل القيادة الجنوبية، فقد كانت جوبا تبحث عن (ما يدين الخرطوم) قبل إلتقاء الرئيسين، البشير وكير في أديس أبابا على هامش قمة الاتحاد الأفريقي الثالثة والعشرين؛ كما كانت جوبا تواقة لما يغطي لها عن دعمها للثورية والورطة التى وقعت فيها الثورية في أبو كرشولا، الأمر الذي جعل رحلة الصيد السياسية التى ظن قادة هذه القوى المعارضة أنهم قاموا بها لبراري جوبا لم تكن سوى رحلة صيد كانوا للأسف الشديد هم الطريدة الوحيدة فيها!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة