الهدف الاستراتيجي من وراء القرار السوداني الأخير حيال جوبا!

لم تكن مخاوف الحكومة السودانية من أن يفضي انفصال جنوب السودان الى تسجيل الدولة العبرية لحضور دائم فى المنطقة مجرد مخاوف عابرة. كانت بالفعل مخاوف حقيقية إذ أن الدول –كما الأفراد– عادة ما تتخير الجيران و (الضيوف) الذين قد يحلّون لدى هؤلاء الجيران أو يقيموا بصفة دائمة ولكن كانت الحكومة السودانية ويشاركها فى ذلك العديد من النخب الوطنية والمواطنين السودانيين تراهن على أن القادة الحاكمين فى جوبا، ومهما بدوا معادين للسودان ومصالحه فهم كانوا سودانيين، والسودانيين لا يعرفون الخيانة والإيذاء والغل والتشفي.
كما أن الحكومة السودانية كانت تدرك أن من المستحيل حل أزمة جنوب السودان دون منحه حق تقرير مصيره فهذه قضية تاريخية عانى منها هذا البلد هذا طويلاً وكلفته الكثير من المال والرجال والشباب الغض.
التزام السودان بمنح الجنوب حقه فى تقرير مصيره كان أمراً لازماً وضرورياً لحل أزمة معقدة ولكن فى ذات الوقت كانت مخاوف السودان من أن تستهين الحركة الشعبية بعلاقات البلدين وتستعين بأعداء السودان من دول المنطقة وكدولة مصنوعة ووظيفة صنعت خصيصاً للقيام بأعمال قذرة هدفها الأول والأخير وقف تقدم الآخرين وإثارة الفتن والحروب والأزمات حتى تغطي على وجودها غير المشروع.
كما أن قادة الحركة الشعبية ليسوا من الذكاء والوطنية بحيث يوازنوا فى علاقاتهم بإسرائيل ما بين مصالحهم ومصالحها، ولهذا فإن البعد الاستراتيجي المهم فى القرار السوداني الذى قرر وقف مرور النفط الجنوبي لا يقف عند حد طريقة تعامل الدولتين وقضاياهما العالقة وليس هذا القرار محدوداً فى حدود إجبار جوبا على التخلي عن العبث بأمن واستقرار السودان.
البعد الاستراتيجي لهذا القرار يتمثل فى عدة نقاط بالغة الأهمية تأتي فى مقدمتها أن يخوض السودان -منذ الآن- حربه الطويلة الشاقة مع أعدائه الذين استجلبتهم جوبا لينفذوا خططه الإستراتيجية البعيدة المدى وهي خطط كما نعلم الهدف الأساسي المرجو منها هو الحصول على السودان كله بموارده ونفطه ومساحته وموقعه الاستراتيجي، عن طريق استخدام دولة الجنوب فى هذه الخطة.
ولعل حالة الوعي التى تنامت لدى كافة فئات الشعب السوداني زادت من قوة موقف الحكومة، فقد أدرك حتى أدنى السودانيين حظاً بالمعرفة العامة أن الأمر اكبر من مجرد خلافات سودانية جنوبية وأن جوبا لها أهداف أخرى هي أهداف قوى كبرى لم تجد أدنى وازع يمنعها من أن تخوض فيها وتصل فيها هذا المدى السحيق من الإيذاء المتعمد للدولة الأم.
النقطة الثانية أن السودان لفت أنظار جيرانه من العرب والأفارقة لمخاطر الدور الذى باتت تلعبه جوبا والذي من الممكن أن يطال دول المنطقة دولة إثر أخرى، فإسرائيل دون شك تحلم بدولتها الكبرى (من الفرات الى النيل) وهو حلم عمره يتجاوالـ70 عاماً، نفذت جزء منه عقب الاجتياح الأمريكي للعراق فى العام2003 وها هي الآن تسعى لتنفيذ الجزء الأخير بالعبث فى منابع ومصب النيل معاً!
من المهم أن يلفت السودان أنظار أصدقائه فى المنطقة لهذا الدور الخبيث الذى ما كان من الممكن أن تلعبه تل أبيب لولا تساهل وأريحية قادة الحركة الشعبية الذين - للأسف الشديد - لم يتعرفوا بعد على الدولة العبرية التى تفتك أول ما تفتك بحلفائها ومساعديها الصغار عاجلاً أم آجلاً.
النقطة الثالثة أن السودان عزم على نزع أي سلاح يمكن أن تهدده به جوبا سواء سلاح النفط أو سلاح زعزعة الأمن والاستقرار فهو الآن يقود مواجهة فاصلة وتاريخية إما أن تقوده الى حل العقدة نهائياً، بانتهاء إيواء جوبا للمتمردين ودعمهم -بضمانات إقليمية أو دولية- وإما أن تظل جوبا أسيرة لتعقيدات اقتصادية سوف تلحق أضراراً باقتصادها المنهك والمتداعي أصلاً.
وعلى ذلك فعند النظر الى الأمر من زاويته الإستراتيجية ينبغي النظر إليه من منطلق حل الأزمة حلاً جذرياً حيث لم تجدي كل المحاولات التي قامت بها الخرطوم لحلحلة الأزمة دبلوماسياً وبسياسة النفس الطويل والصبر والمثابرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة