هذه اللعبة لن تجدي نفعاً!

من المؤكد أن جوبا الآن –وقد دهمها القرار السوداني بوقف ضخ النفط– وهي التى ظلت على اعتقاد راسخ أن السودان ليس لديه ما يفعله طالما أنه وقع أسيراً فى غرام السائل الأسود المنساب باتجاه الشرق حيث ميناء التصدير وأن السودان لن يطيق فراق (رقرقة) البترول وهديره فى أنابيبه؛ تسعى الآن -سراً وجهراً- لتدارك الورطة.
ولعل الأكثر مرارة فى الورطة الجنوبية بفعل القرار السوداني المفاجئ لها أن عنصر الإذلال السياسي فيه أكبر بكثير من حجم الفجيعة الاقتصادية والأكثر مرارة أن جوبا لم يعد لديها -بعد هذا المأزق- سلاحاً تشهره فى وجه الخرطوم فقد نضبت منابع الأفكار وفرغت كنانتها من السهام المسمومة.
فإذا كان  البترول وعائدات تصديره أداة ضغط تستخدمها ضد الخرطوم، وإن كان الأمر يتعلق بمواصلة دعم المتمردين، فقد نجحت جوبا فى تجييش الشعب السوداني وإعادة تعبئته بحيث يستحيل على المتمردين –مهما كان حجم الدعم– أن يخترقوا النواة السودانية الصلدة.
هذا البحر المتلاطم من التعقيدات التى أدخلت جوبا نفسها فيها – بوعي وإرادة أو بدونها – ربما يضطرها للجوء الى (لعبة قديمة مكشوفة وغير مجدية). اللعبة ببساطة شديدة تتمثل في القيام بعملية توزيع أدوار.
سوف ترى قادة وقد وضعوا ريش حمام شديد البياض على بشرتهم ليظهروا بمظهر حمائم سلام. سيقول بعض القادة الجنوبيين، إن هنالك (متفلتين) فى الجيش الشعبي (لا يطيعون الأوامر). سيقول البعض الآخر إن الجيش الشعبي لم يتحول بعد الى جيش نظامي منضبط، والعامل القبلي يلعب فيه دور كبيراً. بل سيحاول بعض المسئولين الجنوبيين ممالأة الحكومة السودانية والتظاهر بالتعاطف معها.
أمور وتصرفات ومواقف كثيرة ستلجأ لها بعض الأطراف الجنوبية حتى من المعارضة ومن هم خارج السلطة فى جوبا بغية تفادي وتحاشي الآثار المدمرة للقرار السوداني بوقف ضخ النفط الجنوبي ولكن كل ذلك لن يكون مجدياً.
الأزمة بالنسبة للقادة الجنوبيين ليست فقط أزمة تقاطع مصالح وتيارات الحكومة هناك، هي أكبر وأعمق من ذلك بكثير، إذ ليست قيادة جديرة بالاحترام تلك التى تضم (شعوباً وقبائل) فى منظومة حكومية من المفترض أنها تقود مصالح واحدة، لا مصالح متقاطعة.
أزمة جوبا الحقيقية تتمثل في عدة أمور؛ أولها غياب قيادة الدولة -كإدارة سياسية واعية مدركة لمصالح بلادها- . حين نقول ذلك لا نقصد ميزان القيادة الجنوبية بميزان غيرها من الدول فهي دولة وليدة لم يتجاوز عمرها العامين، ولكن حتى على هذا المستوى المتواضع كان من الممكن أن تلعب جوبا ما تشاء من لعب فى حدود (المستوى المتواضع) فى هذه المرحلة، فهي من الممكن أن تجادل فى كل ما يتعلق بمصالحها أو أن تبالغ فى حساب مصالحها، أو أن تحاول تجاوز مستوى الدولة السودانية الأم، هذه كلها أمور متوقعة، أما أن تحاول العبث -هكذا بسهولة وبطريقة فجة- بأمن دولة مجاورة هي الدولة الأم بكل هذا الإصرار المستغرب فهذا يعني أنها لا تملك قيادة حقيقية واعية ومدركة لأخطار إدارة شأن دولة.
جوبا تنسى فى هذا الصدد إشانة سمعتها السياسية فى المنطقة، وتنسى وتتجاهل خسارتها للعالم العربي ولأصدقاء السودان اعتقاداً منها أنها لن تحتاجهم والسياسة وفنونها ليس فيها من لا تحتاج إليه مطلقاً.
الأزمة الثانية لجوبا أنها تتجاهل –بغباء غير قليل– قوة الدولة السودانية وتحاول أن تقفز قفزاً بالزانة فوق تاريخ السودان -مع أنها كانت جزء منه- ومن النادر للغاية الى حد العدم أن تصل الأمور لدولة وليدة درجة الاستهانة بالدولة الأم استهانة مطلقة بهذه الدرجة المريعة، ففي العلاقات الدولية هناك حدود للعبات السياسية للدول حتى ولو كانت تسند ظهرها لدول عظمى، لابد من خطوط بالغة الحمرة لا ينبغي الاقتراب منها.
حتى إسرائيل نفسها بكل جنونها وعربدتها تعرف أن واشنطن دائماً تذكرها (بالحدود) التى عليها أن تقف على مسافة منها.
أزمة جوبا أنها مضت فى اللعبة (خارج خطوط المعلب) ولهذا فإن تقسيم الأدوار والبحث عن حلول كله لن يجدي ما لم تعود الى الصواب وتلزم الجادة والمحجّة السياسية البيضاء!

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة