ديموقراطية الاقتصاد السوداني!
يلجأ الكثير من
المراقبين السياسيين هذه الايام لتفسير ما كان قد عبر عنه رئيس الوزراء
السوداني متعز موسى، غداة تعيينه فى منصبه بأنه سينتهج نهج (الصدمة) بأن
الاجراءات الاقتصادية الاخيرة الخاصة بسياسة الصادر والسياسة النقدية
الهادفة الى ترك قيمة العملة الوطنية تتحدد وفق ظروف السوق وحركة الاقتصاد
هي دون شك ما عناه الرجل لدى حديثه عن الصدمة.
غير ان الاكثر اهمية من هذا التوصيف او ذاك ان السودان بإبتداره لسياسات اقتصادية شديدة الواقعية ولا تخلو من آثار جانبية لمعالجة اقتصاده، هو في الحقيقة يمارس الآن ما يمكن ان نطلق عليه بالديمقراطية الاقتصادية.
صحيح ان البعض لا يخفي هواجسه و مخاوفه من الظلال السالبة لهذه السياسات و تأثيرها المباشر على الاسعار ومعاش الناس وغذاؤهم و دوائهم، وحاجاتهم اليومية. و صحيح ايضاً ان السودان يخوض هذه التجربة الصعبة ربما للمرة الاولى في تاريخه الحديث. وهي تجربة محفوفة بالمخاطر و العقبات ولكن من المهم هنا ان ندرك ان هذه التجربة واقعية ومطابقة لكل عناصر و مقومات الاقتصاد.
و تبدو مظاهر هذه الديمقراطية الاقتصادية فى عدة تجليات لا يختلف إثنان عليها: أولاً، القرارات الخاصة بترك قيمة العملة الوطنية (سعر الصرف) لظروف السوق والعرض و الطلب وعبر لجنة فى السوق بعيداً عن البنك المركزي و التخلي عن السعر الرسمي، و التأشيري وغيره ؛ هي دون شك نتاج رؤى تبلورت فى مشروع الحوار الوطني 2014 – 2016م وظلت مطلباً ملحاً من جانب عشرات الخبراء الاقتصاديين الذين كانوا يؤكدون ان تبني سياسة التحرير الاقتصادي يتطلب تحريراً اقتصادياً حقيقياً بأن تدع الدولة حركة الاقتصاد و نشاط الاقتصاديين رهين حركة العرض و الطلب، دون تدخل او وضع تشوهات تتعلق بالدعم او تحديد سعر غير وقعي للعملة الوطنية مقابل النقد الاجنبي ، ومن ثم فان لجوء الحكومة لتبني رؤى الخبراء والمشاركين فى الحوار الوطني فتح الباب واسعاً للآراء للإدلاء بها بغية تنفيذها، وهو من صميم الممارسة الديمقراطية فى الجانب الاقتصادي.
ثانياً، جذب مدخرات العاملين بالخارج بعد تحرير سعر الصرف، هو بمثابة اشراك العاملين فى الخارج فى النشاط الاقتصادي الداخلي فى السودان، حيث لم يعد هناك قيد امام هذه المدخرات ولا يوجد سوق موازي وسوق رسمي بحيث يفضل العاملين بالخارج السوق الموازي من اجل تقييم مدخراتهم.
ثالثاً، السياسات الخاصة بالصادر اعطت الامل لكل المنتجين فى ظل مرونة الاجراءات للحصول على مزايا لإنتاجهم من الخارج سواء تمثل ذلك في حصيلة الصادر التى لم تعد مقيدة بالقيود السابقة او فى امكانية التصدير ومن ثم الاستيراد دون عناء كبير، فهذه السياسات تتجلى ديمقراطيتها فى انها تمنح المنتج السوداني محفزات وقدرة على الانتاج و تحسين هذا الانتاج لان قواعد واجراءات الصادر فيها مرونة وسهولة.
رابعاً، الكل صار شريكاً الآن فى النشاط الاقتصادي واصبح العمل الاقتصادي مسئولية الجميع، المنتج والمستهلك والمصدر والمستورد ؛ حيث ان الاهتمام بالتصدير و تجويد سلع الصادر سوف يقلل بالضرورة من نزعة الاستيراد و النزعة الاستهلاكية فى استيراد سلع غير ضرورية.
وبذلك يمكن القول ان بناء الدولة السودانية الحديثة الذي يجري الآن وإن بدا للبعض غريباً إنما استهل ذلك بالممارسة الديمقراطية الاقتصادية ولأنّ الاقتصاد شديد الارتباط بالسياسة فان من المؤكد ان الديمقراطية الاقتصادية سوف تحقق الديمقراطية السياسية عملياً.
تعليقات
إرسال تعليق