الموساد الإسرائيلي فى السودان
فى الحفل المصغر المحدود الذى عادة ما يجري على هذا النحو
عند انتهاء فترة عمل مسئول استخباري وتسلم جديد لمهامه، قال مسئول الاستخبارات
الإسرائيلية السابق (عاموس يادلين) إن الموساد أنجز أعمالاً عظيمة فى السودان.
وعدَّدَ عاموس ما أسماها بالأعمال العظيمة، وسط حالة ارتياح
وإعجاب واضحة المعالم على محياه بقيام الموساد بتنظيم قوات المتمردين فى جنوب
السودان وإيصال السلاح إليهم والإشراف على تدريبهم حتى حصلوا على دولة مستقلة ذات
سيادة!
وأماط عاموس اللثام عن (شبكات) وصفها بأنها (رائعة) للموساد
عمل على بنائها طوال السنوات الماضية فى كل من جنوب السودان ودارفور وقال أن ما
يميزها أنها قادرة البقاء والاستمرار الى ما لا نهاية!
وأفاض (عاموس) في تعداد انجازاته وهو يسلم خلفه (آفيف
كوخفي) مهامه ليختتم حديثه بالملف الحالي الذى لم يكمله بعد، وعلى الجنرال الجديد
المواصلة فيه وهو (تنظيم الحركة الشعبية) و (بناء جهاز استخباري جديد لها)!
هذا الخبر الذي يبدو مستغرباً لكونه يتعلق بأنشطة يفترض
أنها سرية لا يتم التصريح بها بهذا القدر من التفصيل والوضوح أوردته العديد من
شبكات ووكالات الأنباء الأسبوع الماضي، وما يزال العديد من المراقبين والمحللين
السياسيين عاكفين على محاولة فهم ما وراء ظلاله، وما بين سطوره وعباراته.
غير أن من المعلوم للعديد من هؤلاء المراقبين فى السودان
وخارجه أن الدولة العبرية حاضرة فى طيات كل المآزق الأمنية السياسية التى دارت
رحاها الطاحنة فى هذا البلد ولم يكن أمراً مخفياً أن إسرائيل سارعت باحتضان أول
حركة تمردت فى جنوب السودان فى خمسينات القرن المنصرم ورعتها رعاية فائقة.
ولهذا فإن تباهي قادة الموساد (علناً)بهذه المنجزات الأمنية
لن يضيف جديداً فهو أمر معلوم عن الموساد بالضرورة إذ يكفي هنا حادثة تحطم طائرة
زعيم الحركة الراحل قرنق وما صاحب الحادثة من غموض، وظروف وملابسات مشبعة برائحة
العمل الاستخباري النفاذة، فالذي يعرف قرنق ومواقفه وأطروحاته ويستمع الآن لمباهاة
الموساد بإسهامه فى فصل جنوب السودان يستطيع أن يفهم الأمر جيداً.
كما أن السلاح الإسرائيلي منتشر ليس فقط فى جنوب السودان
والحرب الأهلية الطويلة التى دارت لنصف قرن هناك ولكن فى كافة أرجاء القارة
الإفريقية وعلى وجه الخصوص منطقة البحيرات ومناطق رواندا والكونغو وليبيريا
والمجازر البشعة التى شهدتها تلك المناطق بفضل السلاح الإسرائيلي الهائل الرخيص
والمتاح لكل من يرغب.
وعلى ذلك فإن السؤال فى الواقع ما ينبغي أن يتجه تلقاء
(انجازات الموساد) فى السودان وفى دول جواره والمنطقة، فهذا ميدان فسيح تمرغت فيه
الموساد كما شاءت، ولكن السؤال هو لماذا (الإفصاح المبين) بهذا القدر من البجاحة
السياسية والإعلان الرخيص المبتذل فى هذا التوقيت بالذات؟
من الجائز أن الموساد يحاول جاهداً (رفع معنويات) المتمردين
السودانيين فى جنوب كردفان والنيل الأزرق ومتمردي دارفور فى هذا الظرف المفصلي
الحساس، ذلك أن الجيش السوداني عقد العزم على عمليات تطهير لكافة الأراضي
السودانية وغربلتها من حملة السلاح فى عمل شبيه بالعمل الخلاق الذى أنجزه فى
عمليات صيف العبور الكاسحة فى تسعينات القرن الماضي، والتي أثارت هواجس واضطرت
حركة قرنق يومها (للتفكير الجاد) فى التفاوض.
الموساد بدا كمن يعمل على المكشوف، ويحدد طبيعة المواجهة
ويسترعي انتباه آخرين خارج السودان يعتبرهم حلفاء مفترضين للسودان . من الجائز
أيضاً أن تكون اللعبة معكوسة تماماً، بحيث تثير قلق الحكومة السودانية كون أن
الموساد ربما ينشط –من جديد– لعملية انفصال جديدة فى جنوب كردفان أو النيل الأزرق
أو دارفور وهذا واضح في (صيغة المبالغة) الواردة في حديث (عاموس) من أنهم بنوا
شبكات استيعاب (قدرات خرافية) كهذه! وما من رجل مخابرات بإمكانه إماطة اللثام عن
شبكات غير قابلة للكشف الى الأبد إلاّ إذا كان يرمي الى إثارة قلق على نحو تكتيكي!
من الجائز أيضاً أن إسرائيل تعلن مقدماً عن (حلفائها) فى
الثورية كحلفاء محتمَلين؛ تماماً مثلما كانت الحركة الشعبية حليفتها وطوع بناها
بحيث تدين لهم الأمور فى السودان لكي تشيع قلقاً لدى حلفاء السودان فى الخارج ومصر
على وجه الخصوص.
كل هذه الفرضيات جائزة وليس من السهل إقرار واحدة منها
إثباتاً وتصديقاً، ولكن من المؤكد أن هذه اللعبة المكشوفة الماكرة وراءها خطوة ما
أكثر خطورة!
تعليقات
إرسال تعليق