الثورية والمشروع غير المشروع




من المؤكد أن لوثة سياسية مدمرة أصابت الذهن السياسي للقوى المسلحة المكونة للجبهة الثورية بدءاً من قطاع الشمال مروراً بحركات دارفور المسلحة وهي تقدح زناد حرب ضد الدولة السودانية لتستعدي المواطنين السودانيين وتجبرهم -دفاعاً عن شرفهم الوطني على الأقل- للتصدي لهم ليس فقط للدفاع ولكن عن طريق المبادرة بالهجوم.
وإذا أردنا إدراك فداحة الخطأ الاستراتيجي المدمر الذى وقعت فيه الجبهة الثورية بكل مكوناتها هذه، فلنقرأ بإيجاز هذه النقاط دون الإسراف فى التفاصيل. فمن جانب أول تسبب الهجوم فى لجوء الحكومة السودانية –بداعي مسئولياتها السيادية– لإعلان التعبئة العامة وما تقتضيه من استدعاء الاحتياطي الشعبي واستنفار المجاهدين وفتح معسكرات التدريب وهي أمور – سواء علم  بها أو جهلها قادة الثورية – تجد عادة حماساً منقطع النظير فى السودان فى كل العهود التى مرت عليه وأياً كانت الدواعي فما بالك بالمشاهد المقززة المستفزة لوجدان كل سوداني والمتمثلة في عمليات الإعدام البشعة التى ارتكبتها الثورية فى أبو كرشولا وأم روابة واغتصاب النساء.
وبدا واضحاً أن كافة قطاعات المجتمع السوداني والمنظمات الفئوية والسياسية أصبح شغلها الشاغل إسناد ظهر الجيش السوداني وتمتين شكيمته وعزيمته للتخلص وعلى نحوٍ نهائي قاطع من حملة السلاح ومروِّعي الأطفال والنساء.
هذه التعبئة لن يكون سهلاً تفريغها أو إيقافها على المدى القصير فهي (حالة غضب) حادة للغاية أثارت كوامن السودانيين بحيث تلاشت تماماً المواقف السياسية أو مآخذ البعض على الحكومة السودانية، كما هي تعبئة لن يكون سهلاً على قوى الثورية إدراك دوافعها، ففي اعتقادهم أن السلطة الحاكمة تقاتل وحدها وأن الجيش جيشها وأن بالإمكان هزيمته والسيطرة على الأمور!
هذا الخطأ الاستراتيجي الذى تغلغل منذ سنوات فى أذهان قادة الثورية جعلهم يتصورون أن (كل شيء فى السودان يخص الوطني) ومن ثم فإنهم يمارسون (جراحة دقيقة) للفصل بين الوطني وحكومته وجيشه وقواته النظامية وبقية الشعب السوداني.
جراحة أكثر دقة من جراحة فى (قلب ناموسة)، يعتقد عباقرة الثورية أن بإمكانهم القيام بها فى نزهة صباحية بعربات الدفع الرباعي الرنانة الصوت، الفائقة السرعة.
العدوان أعاد تركيب المعادلة السودانية بحيث أصبح الكل في (مركب واحد) فى مواجهة أسماك القرش الصماء التى يجتذبها اللون الأحمر ورائحة الدماء، ومن المستحيل حين تأتي مواجهة كهذه أن يساند من هم على المركب، هذه الأسماك المتوحشة ليهلك الجميع لصالح مياه المحيط الهادر المتلاطمة!
هذا جانب أما الجانب الثاني، فيتمثل في إدراك السودانيين – بذكائهم المعهود – أن بديلاً يفوق السوء بسنوات ضوئية مليونية فى انتظارهم . بديل ذي توجهات عنصرية، ودوافع ثأرية انتقامية وتطهير عرقي يمكن أن يحصل على (تصريح دولي) طالما أن أمثال رايس هناك فى مجلس الأمن لإعطاء الشرعية المطلوبة (للمذابح) التى يحبذونها، وليس سراً هنا أن المقصد الأساسي ليس فقط إسقاط النظام ولكن إسقاط هوية الدولة السودانية كدولة (عرب افريقية) واستبدالها بمسخ مشوه غير معروف الهوية إذ من المؤكد أن إسرائيل تتوق كل التوق أن ينكسر جزء من الحلقة العربية الإسلامية الحديدية المحيطة بها في المنطقة بخروج السودان من المعادلة الإسلامية العربية.
لو كانت إسرائيل تمنِّي نفسها الآن بشيء لما كان أكثر من أن يصبح أمثال عقار وعرمان والحلو قادة لدولة خارج السياق العربي الإسلامي فيخسر العالم العربي الإسلامي جداراً كبيراً فى منطقة شمال وجنوب الصحراء المفصلية الإستراتيجية.
إدراك السودانيين لهذه النقطة المهمة أعاد تجييش مشاعرهم ووجدانهم حيال هذه المشروع المسخ الأصم الذى لا يعبأ بالأشلاء والجثث والدماء . هل هنالك من عاقل فى  السودان لم يدرك أبعاد هذا العدوان؟ وما وراءه، ومن وراءه؟ ومتى كانت قضايا المنطقتين – جنوب كردفان والنيل الأرزاق – بكل هذه الحدة و الاهمية التى تصل الى حد توسيع نطاقها لتعم مناطقاً أخرى فى كردفان؟ ومتى كان حملة السلاح فى دارفور مهتمين ومعنيين بما يجري فى جنوب كردفان والنيل الأزرق ؟
حملة السلاح فى دارفور لم يستطيعوا اجتياح مدينة أو قرية فى دارفور ما بالهم يطمحون فى توسيع نطاق الحرب لتمتد ألسنة النيران الى كل أنحاء السودان؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة