الشياطين الخرساء
على الرغم من كونها -نظرياً وعملياً- بمثابة حليف لما يسمى
بالجبهة الثورية بالنظر الى الميثاق السياسي المعروف الذي جمع بينهم، إلاّ أن قوى
المعارضة السياسية السودانية وجدت نفسها عقب الاعتداءات التى قامت بها الثورية في
مناطق أبو كرشولا وأم روابة مؤخراً في ذات الحالة (الخرساء) التى اعتادت عليها.
لا هي أدانت العملية بملء فيها وبكامل ثقتها في نفسها
ورفضها للعنف –كما تزعم– ولا هي أبدت تأييدها لما جرى من تنكيل وسحل وقتل وتعليق
على أعواد المشانق بواسطة الثورية فى هذه المناطق التى شهدت ترويعاً ما شهدته
منطقة سودانية قط.
لو أن الأوضاع داخل مكونات التحالف والتحالف نفسه كان
مبنياً على أسس وطنية صادقة لأصدر التحالف فى ذات صباح الحدث بياناً ضافياً يرفض
فيه هذه الجرائم النكراء التى ترتكب وإسمه ضمن (أبطال الفيلم) حتى ولو في ذيل
الممثلين وفنيي الصوت والضوء.
عزوف قوى المعارضة عن عقد اجتماع طارئ –والأحداث ساخنة– لإدانة
العملية رسخ انطباعاً متوقعاً بأن التحالف إنما أبرم تحالفه مع الثورية ووقع معها
على وثيقة الفجر الجديد للقيام بمثل هذه الجرائم!
وهذه بدورها تعني احد أمرين: إما أن التحالف كان يعلم ووافق
مسبقاً على هذا العمل الأخرق ومن ثم يتحمل تبعاته سياسياً وأخلاقياً إن لم يكن
جنائياً ؛ أو أنه لم يكن يعلم، ولكنه -بصمته وسكوته المريب- أعطى الاعتداء بعداً
سياسياً يوقعه تحت طائلة المحاسبة السياسية الأخلاقية. وفى الحالتين فإن التحالف
حمَّل نفسه فوق طاقتها.
غير أن المشهد الذي بدا للجميع أن امكانية نجاح الجبهة
الثورية -رغم كل عدتها وعتادها- فى اختراق السياج الأمني للدولة وإحداث التغيير
أمر مستحيل تماماً فالترويع والقتل والجرائم التى ارتكبت عبأت المواطنين ضد
الثورية بصورة لم تكن لتنجح فيها الحكومة السودانية لو أنفقت ما في الأرض جميعاً
وبالتالي فإن وجود شعور لدى المواطنين أن هؤلاء الجناة الموتورين لديهم (ميثاق
سياسي) مع أحزاب سياسة من شأنه أن يعبئ شعوراً مماثلاً ضد هذه القوى السياسية من
جانب المواطنين العاديين الذين لم يستوعبوا وليس بوسعهم أن يستوعبوا الحكمة من
ترويعهم وإجبارهم على الخروج من ديارهم
وترك ممتلكاتهم وزيادة معاناتهم الى هذا الحد الذى لا يطاق.
ولعل قوى المعارضة السودانية فى قرارة نفسها أدركت أن
الجبهة الثورية ليست (القشة) التى تصلح للتعلق بها، فهي لا تتوانى في فعل أي شيء وليس
لديها ما تخسره، فالذين يحملون السلاح لا يمارسون عملاً سياسياً بقدر ما هم
مغامرون.
ومن جانب آخر فإن من الممكن أن تكون قوى التحالف نفسها -إذا
نجحت المغامرة العسكرية- هدفاً لهذه القوى المسلحة طالما أنها قامت بالجهد العسكري
وتعرضت لاختبار النار وهذه النقطة المحورية بالذات هي التى ظلت غائبة وما تزال
غائبة عن ذهن قوى التحالف، فهي – بسذاجة نادرة – ما تزال تعتقد أن الجبهة الثورية
جبهة سياسية طوعية تقدم عملاً خيرياً مجاني وتعمل لصالح القوى المحبة للديمقراطية،
وكل ما عليها أن تفعله هو أن تسقط الحكومة ثم تفسح المجال واسعاً للقوى السياسية
لكي تتسلم السلطة آمنة ومطمئنة، شاكرة ممتنة!
ولعل خير دليل على ذلك المجزرة التى ارتكبتها الثورية -فى
رابعة النهار- فى منطقة أبو كرشولا بإعدام العشرات لأسباب سياسية وقبلية. فلِمَ لا
يكون المقصد النهائي التخلص من هذه الأحزاب هي الأخرى حتى تدين الأمور بكاملها
للثورية بتوجهاتها الإثنية والعنصرية المعروفة؟
وهكذا فإن ما خسرته هذه القوى السياسية المعارضة –وهي جالسة
فى دورها فى الخرطوم– من الوجهة السياسية المجردة يفوق فى فداحته ما خسرته قوات
الثورية فى ميدان القتال من خسران عسكري وخسران سياسي وفشل فى تحقيق أي من
أهدافها.
ولعل الأكثر سوءاً بالنسبة لهذه القوى السياسية الخاسرة –
ويوشك التاريخ هنا أن يعيد نفسه – أنها ستظل بمنآى عن أي محادثات قادمة حتى بعد كل
هذا الذي حدث لتتذوق ذات الكأس الذي سبق لها أن تذوقته على أيام تحالفها – كتجمع
وطني مع الحركة الشعبية وارتكبت الأخيرة الفظائع بإسمها وحين حان أوان الاتفاق
والجلوس الى المائدة، افترقت الطرق، وتمايزت الصفوف وتباعدت المواقف.
تعليقات
إرسال تعليق