وشمس السبت السابع والعشرين تمضي الى مستقرها بعد أن جعل من نهار ذلك
اليوم مسرحاً لجريرة اقترفها قتلة من الجبهة الثورية ضد آمنين فى مدينة أم
روابة بشمال كردفان وليحل المساء ونحن نمضي بمحض إرادتنا لمقر القاتل
المحترف أو هذا ما أطلقته عليه صحافة بريطانيا وتحديداً الـ( ديللي ميرور)
فى عددها الصدر 13/3/2013م، توقفنا على جانب أحد شوارع مدينة الخرطوم فى
انتظاره.. وصوت المغني ينبعث من جهاز التسجيل بسيارتنا (مجلسك مفهوم شوفو
رايق) رائعة خليل فرح فساهمت فى تقليل قلقنا من هذه الخطوة..
طرق خفيف
على زجاج السيارة لننتبه الى شاب يبتسم بود و بعد سلام سريع يركب معنا
ويوجهنا الى مقر سكنه.. ونصمت، إلا أن من توجيهاته لنا بالاتجاهات.. (لكنة)
القبائل العربية بدارفور واضحة.. دخلنا الى حيث أشار .. شقة بسيطة جلسنا
فى الصالة حيث طقم جلوس بسيط وجهاز تلفزيون كان وقتها يبث مباراة في كرة
القدم..
الصمت ساد بيننا قبل أن نبدده بسؤال عن علاقته بكرة القدم، الفتى يشجع الهلال العاصمي..
ويتبيّن
لك بعد تلك اللحظات أنه ودود ومنفتح رغم مسحة الحزن التى سرعان ما تغلف
نظرته، وتتأكد من بساطته سريعاً ويجيبك على كل سؤال باختصار ولا يسترسل...
قليلاً قليلاً تسرب إحساسنا المتوتر باعتبار أننا نجالس (القاتل المحترف)..
الفتى
لا يحمل أوراقاً ثبوتيه غير أنه يعطيك المعلومات المطلوبة فهو محمد عيسى
سالم أبو قاسي من مواليد محلية كتم فى 14/7/1985م ينتمي لقبيلة رزيقي أولاد
راشد .. كان يعمل بالرعي لماشيته وماشية أسرته حتى العام 2001 حين هاجر
الى ليبيا لتبدأ رحلته مع القتل والإرهاب.. شارك فى قتل 300 ألف شخص ليصبح
اسمه محمد جنجويد ..هكذا نشرت عنه الديلي ميرور..
محمد عيسى فى دارة
الشيخ كانت حياته تسير كعادتها لا يكدرها شيء إلا ما لا يتوفر للماشية..
فيخرج مع القبيلة متنقلين بحثاً عن الكلأ والماء.. يدورون فى مساحة محددة
قلّما تجد أحد أبناء القبيلة يرغب في البُعد أو الهجرة إلا محمد ..تزوج
وعندما تحرك الجنين فى بطن زوجته فى العام 2001 تحرك فى عقله جنين الطموح
فخرج بعيداً عن دائرة الماء والكلأ ليصل الى الجماهيرية العربية الليبية فى
العام 2001 لم يلبث إلا أياماً قلائل يتأكد له أنها ليست إلا محطة لرحلة
طويلة .. الفتى الذى بلغ من العمر وقتذاك 16 عاماً أمضى منه عاماً واحداً
فى الصف الأول الابتدائي وخرج منه الى مدرسة الحياة.. أضاف الى عمره فى
الجماهيرية الليبية ست سنوات وبعضة أشهر أمضاها مزارعاً حيناً وراعياً
أحيان أخرى .. يجمع المال لرحلة ستطول... أيام ويصحو على حلم الوصول الى
بريطانيا .. جنين طموح الفتى خرج الى الحياة فتطور الى جرأة مع الإصرار على
تحقيق الحلم.. بريطانيا .. اتصالات متفرقة مع الأهل والزوجة.. يطمئن عليهم
ويطأنهم عليه وسريعاً ما ينهي المكالمة قبل أن تبدأ رجاءات أن يعود.. خرج
مصطفى إبنه الى الحياة وكاد هذا أن يقتل الطموح والحلم غير أنه سرعان ما
عاد الى تحفيز النفس بالسفر...
السادسة من صباح اليوم السابع عشر من
يونيو للعام 2006م، خرج صاحبنا من الأراضي الليبية لتتأكد جرأته وإصراره من
الوسيلة التى استغلها للخروج.. امتطى قارباً بلاستيكياً خفيفاً ومعه
ثلاثون مغامراً آخرين جلهم كانوا من إثيوبيا وارتريا .. ولأن القارب لا
يحتمل فكان معهم من الزاد القليل .. زجاجة عصير وعلبة طحنية .. وحلم جامح
.. الفتي دفع لشراء المجهول أو الموت في غالب الأحوال ألف وسبعمائة دولار
وكان يعلم علم اليقين أن نسبة النجاة تقل كثيراً عن نسبة الموت والغرق
فالبحر عنيد والمركب لا حيلة له إضافة إلى أن قائد المركب هو أحد المغامرين
وظفه سماسرة الرحلة بعد تدريبه على القيادة ليصل إلى شواطئ ايطاليا ويترك
القارب.. هذا في حال وصولهم!
الصمت يطبق على سكان المركب فقط صوت
المحرك الذي يضيع وسط أصوات هدير البحر وغضبه عليهم .. ظلوا طوال الليل
ساهرين.. لعلهم أرادوا أن يشهدوا آخر لحظات حياتهم.. غابت الشمس وبعضهم لم
تدخل بطنه لقمة أو شربة ماء.. القلق والتوتر والتحسر على ارتكاب هذا الحلم
الجريمة.. إلا محمد.. كان يجلس في مقدمة المركب ولا ينظر إلاّ إلى الأمام
حيث لا شيء سوى الماء والأمواج المتلاطمة غير أن حلمه يقول له إن هناك ما
بعدها.. انتبه .. وعاد يذهب إلى حيث المركب ليكتشف أنه قد توقف في عرض
البحر.. جلبة وتوتر وبكاء من زملاء المغامرة.. إلا محمد بقي صامتاً وقلبه
يحدثه أن الرحلة لم تنته بعد.. صورة إبنه مصطفي تلح على خياله فتدمع
عينيه..
زميل مغامر يلوم قائد الرحلة عن كيف لم ينتبه لحاجة الرحلة من
الوقود؟ ليفاجئهم القائد أنه لا علاقة له بالمركب إلا منذ أسبوع فقط حيث تم
تدريبه ليقودهم وهو كان من المقرر أن يغادر في متنه مسافراً مثلهم..
الشاب
الاريتري أخرج جهاز ثريا ليخاطب وبلغة انجليزية رقم الطوارئ وبعد أقل من
نصف ساعة منذ أن استسلم المركب للموج يلعب به ويأخذه بلا هدى حسب ما تأثر
به الريح ويوافقها عليه الموج وصلت بواخر خفر السواحل الايطالية..
أخبرهم
الشاب الارتري وهم يصعدون على متن بواخر الشرطة أنه كانت تفصلهم عن
الشواطئ الايطالية 10 كيلومترات فقط .. همهمات استهجان على سوء حظهم صدرت
على جُل زملاء المغامرة .. إلا محمد الذي تمتم بحمد الله فما زال الطريق
إلى بريطانيا ممكناً.. أو هكذا همس له حلمه العنيد..... يتبع
تعليقات
إرسال تعليق