أسوأ موقف تفاوضي ينتظر القطاع
بصرف النظر عن مآلات التفاوض بين الجانبين – قطاع الشمال
والحكومة السودانية، وما قد يفضي إليه مستقبلاً إذا سار فى ذات المسار أو تعثر؛
فإن حادثة الاعتداء على أم روابة وأبو كرشولا أوردت فى الواقع محددات إستراتيجية
قصوى لعلاقة الطرفين من جهة، وعلي العلاقة بين الخرطوم وأيّ حركة مسلحة من جهة
أخرى.
ففيما يخص علاقات الطرفين القطاع والحكومة، فإن القطاع سواء
تدثر برداء الثورية، أو ارتدى ثيابه الخاصة أفسد قدراً كبيراً جداً من أوراقه
التفاوضية، حتى وإن بدا له أنه أضفى تحسيناً على موقفه التفاوضي، فقد افسد القطاع
ورقته الميدانية غاية الإفساد، فالجيش السوداني لن يهدأ له بال -مهما بلغت خسائره
أو طال أمد الحرب- حتى يصل الى آخر نقطة للقطاع والثورية.
الخطأ هنا هو خطأ الثورية والقطاع فى شنّ حرب بمواصفات
واسعة النطاق، ففي العادة لا تحتمل الجيوش النظامية مثل هذه الميادين الفسيحة
ولهذا سوف تركز جهدها -وهي تمعن النظر بقوة فى شرفها العسكري- على أن تغيِّر
المعادلة العسكرية على الأرض بصفة جذرية. بمعنى أكثر وضوحاً فإن الثورية أخرجت
مارد الجيش السوداني وكل قواته من قمقمها فى معركة مصيرية فاصلة، ليس سراً أن
مساحتها اكبر من الساحة التى خططت لها الثورية، وهذا ربما أعاد الأذهان لتجربة صيف
العبور الشهيرة فى تسعينات القرن المنصرم حين وضع الجيش السوداني نصب عينيه إخراج
الجيش الشعبي – بالمرة – من كافة ميادين القتال ليضع حداً لعنصر المبادأة بصورة
قاطعة لا لبس فيها.
ولهذا تشير سطور ذلك التاريخ القريب المبهر حقاً الى أن
واحداً من أهم العناصر التى دفعت الحركة الشعبية للتفاوض –من بينها عناصر أخرى– هو
شعورها أنها تقاتل جيشاً نظامياً وضع نفسه وهيبته وكل تاريخه فى الميزان مسنوداً
بقوات شعبية وجبهة داخلية قوية.
الدكتور جون قرنق الذى يتحلّى بقدر من الواقعية أدرك فى
قرارة نفسه أن من المستحيل بمكان محاربة قطر ودولة بكاملها بجيش عصابات وعربات دفع
رباعي. الآن لمفارقات القدر وسخرياته فإن القطاع والثورية بغباء نادر – عملوا على
إحياء المد الشعبي الكاسح ليقف ضدهم فى موقف مشابه لعمليات صيف العبور، ومن ثم فإن
من أهم محددات الصراع القائم الآن هو عزم الحكومة السودانية على إلحاق الهزيمة
النكراء البائنة بالثورية وقطاع الشمال بأي ثمن وهو أمر ليس من مصلحة الثورية لا
في الحاضر ولا فى المستقبل.
الورقة الثانية التى أفسدها القطاع أن ورقته الجنائية
والإنسانية التى كان يتكئ عليها فى تأليبه للمنظمات الدولية ضد الحكومة السودانية
. الآن ارتكب القطاع جرائماً بشعة موثقة ومقززة ولا مبرر لها، فحتى لو لم يلق
إدانة دولية حيالها فهو على الأقل لن يستطيع – مهما كان مكابراً – أن يتشدق بورقة
الجنائية وحقوق الإنسان والسلسلة المطولة من الأوراق الصفراء ذات المنحى الانتقائي
الدولي.
وعلى هذا الأساس فإن من ضمن المحددات التى خلقها القطاع
برعونته هذه أنه -ودون مبرر- أعطى الحكومة السودانية سيفاً مقابلاً لكي تشهره فى رقبته
كلما حاول اللجوء الى ما يسميها (جرائم النظام)!
وأخيراً فإن القطاع جعل بدن السودانيين تسري فيه قشعريرة من
نوع فريد، إذ كيف سيرضى بهؤلاء الذين يرتكبون المجازر وهم غارقون فى الضحك والتشفي
حكاماً وثواراً؟
وعليه فإن هذا يقودنا الى آخر هذه المحددات الإستراتيجية
وهي أن الحكومة السودانية من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- أن تجري عملية تفاوضية
مع قوى مسلحة شاهرة سلاحها . من الجائز أن يجري التفاوض مع جسم سياسي (منزوع
السلاح) أو مجموعات منهكة أدركت عدم جدوى السلاح ولكن ليس غير ذلك البتة.
تعليقات
إرسال تعليق