محمد عيسي سالم أبو قاسي.. محمد جنجويد لاحقاً حكينا قصة خروجه دامرة
الشيخ بكتم بحثاً عن تحقيق حلمه.. بريطانيا.. عبر ليبيا التي وصلها في
العام 2001م وكان وقتذاك في السادسة عشرة من عمره وبقي فيها ست سنوات
مزارعاً وراعياً ومحافظاً علي قوة حلمه ببريطانيا حتى تخرج في مركب هو
عنوان للمجازفة وتوقفت بهم علي بعد كيلومترات من شؤاطئ ايطاليا وألقي القبض
عليهم من شرطة خفر السواحل الايطالية.. ثلاثين مغامراً جمعهم حلم الهجرة
ومركب بلاستيك وقارب إنفاذ ثم انضموا الي آخرين كثر كانوا سكان المعسكر
يشبهونهم في الحلم والحظ.
التعب يأخذ منهم كل مأخذ.. ما أن وطئوا أرض
المعسكر حتي راح جل زملاء المغامرة في نوم عميق.. إلا محمد.. يجول في
نواحي المعسكر يتعرف علي الزملاء الجدد رغم حاجز اللغة.. فالفتي لا يملك
إلا لغته العربية فقط ولسوء حظه – أو إمعاناً في امتحانه – لم يجد من
يتحدثها.. ممثلون لكل شعوب العالم كانوا هناك.. همس في سره: كل العالم
يهاجر.
ساعات بقي منتظراً أن يستيقظ الشاب الاريتري رفيق البحر
ليتواصل معه.. فالاريتري عبر الي ليبيا من باب السودان وله من الكلمات ما
تجعله (يحلل) بها صيام طال عن الكلام.
يكتشف لاحقاً أنهم في مدينة
(لامبدوزا) وهي جزيرة ايطالية صغيرة وعدد سكانها قليل تضج بالحياة أكثر
بسبب قدوم المغامرين عليها.. قال له الارتري متأثراً: (تحرك معنا من ليبيا
اتنين مركب كبير وكلو غرق) ولم يكمل.. بكي .. فقد فيهما أقرباءه.. محمد
شاركه بالصمت.. (300 غريق) هي حصيلة غرق المركبين.. وطال صمت محمد.. هل
يحمد الله علي نجاتهم أم يحسد أولئك علي نهاية الحلم؟
والمساء يحل
والمعسكر حلقات للحوار والتشاور (كل الناس اتنين اتنين) إلا محمد.. وحده
قبل أن يأتيه الصديق الارتري بآخر ما يتناقله سكان المعسكر.. سيتم ترحيلنا
إلي مدينة (كرتون) وهناك سنجلس إلي الاستجواب قبل إجراء البصمة توطئة
للدخول في قائمة انتظار مقابلات اللجوء.. وقبل أن ينهي الارتري حديثه أخبره
بنصيحة من قدامي المغامرين بضرورة التهرب من تسجيل البصمة.. قال له: ستحد
من تحركك.
لم يدر محمد كيف نام ومتي؟.. استيقظ علي يد شرطي ايطالي توقظه وتمد له سندوتشاً وكوب عصير.. ويشير له أن استعد ..
محمد
الذي كان حراً.. عاد إلي دامرة الشيخ وتذكر كيف أنه في سبيل حريته كان
يدفع أغلي الأثمان.. وقد تذكر يوم شعر وهو ابن السادسة أن هذا المكان الذي
يسمي مدرسة وهذه الحجرة التي هي الصف الأول ما هي إلا سجن يمنعه عن حريته
ساعات من اليوم.. فترك شنطته القماش وما فيها من أقلام و (كراريس) ولحق
بأبيه في الفضاء الذي لم يبدله منذ ذلك الزمان بمكان يحبسه فيه جدران.
انتبه الى الشرطي وهو يربط حزام الأمان علي خصره في طائرة صغيرة.. ابتسم
بأسي علي ضياع حرية.. وسرعان ما عاد له حلمه الهامس يطمئنه ويسانده.. وطفق
ينظر من الشباك إلي الأرض وهي تبتعد والفضاء يتسع.. ورغم صغر الطائرة
وحداثة تجربته معها ورغم قيد حزام الأمان شعر بالحرية.. فالفضاء متسع
والعالم شاسع والشرطي القابض عليه صار صغيراً وبعيداً..
هبطوا في
(كرتون) حيث التحري والبصمة...20 شخصاً ضمتهم الطائرة.. أمضوا سحابة نهاركم
في عنابر المعسكر وعصر اليوم خرج ينقصي الأمر.. قابل تشادي وعرب لهجتهم
تشير إلي المغرب العربي.. وأعادوا علي مسامعه التحذير من البصمة.. ما إن حل
الليل حتي صحا الحلم الجامح فبحث عن التشادي وحدثه عن نيته في الهروب..
سأله: لكن إلي أين؟... أجاب بذكاء: أي مكان بدون (سلك شائك) وشرطة..
ما
ظن أن هناك من يشبهه في الجموح والجرأة لكن الواقفون في ركن بعيد عن أعين
الحراسة في ذاك المعسكر يساعدون بعضهم في تسلق السور يقول له أن هناك من
يشبهونك.. وقفز.. الدليل كان من المغرب العربي.. قادهم بمحاذاة الطريق
العام لكن من داخل غابة.. ست ساعات علي الأقدام.. والليل مضي واقتربت ساعات
اليوم التالي وتعبت الأقدام .. مبنى مهجور علي طرف الطريق استكشفوه سريعاً
ثم اتخذوه مقراً للمبيت..
الصباح بلا شاي ولا ماء، بل ولا مال.. بحث عن زملاء الأمس لم يجد إلا بعضهم.. تحرك ومعه إفريقي لا وسيلة اتصال بينهما إلا الإشارة ..
وبعد مسير لمدة تقل عن نصف ساعة وجدوا محطة قطارات استغلوه بلا تذكرة
وبقيا مستيقظين حتى إذا لمحا (الكمساري) دخلا الى دورة المياه وهكذا تكرر
الأمر ثلاث مرات قبل أن يصلوا محطة كبيرة نزل فيها عدد كبير من المسافرين
علي القطار فنزل هو وبقي الإفريقي ينظر إليه.. وانتظر هو حتى تحرك القطار
فلوح بالوداع للرفيق الصامت ورد ذاك التحية ودخل الى المحطة..
في احدى
دورات المياه بالمحطة نظر الى وجهه وهيأته ليكتشف انه صار أشبه بالمتشرد..
بذل بعض الجهد لإعادة هيئته الى سابق عهدها ففشل.. الإعياء يلون نظراته..
خرج مستكشفاً المكان.. محطة قطارات اكبر من تلك التي غادروها.. كرتون.. يجد
بار يلمح داخله مجموعة من خمسة أشخاص عليهم سيماء السودانيين اتجه إليهم..
صدق حدسه كانوا من قبيلة في دارفور غير أنهم لم يولوه كثير اهتمام فقط
أشاروا إليه لمكان قريب من المحطة سيجد فيه مكاناً له.. ومضى حيث أشاروا
ويدور في ذهنه سؤال: لماذا لم يدعونه لتناول بعض ما عندهم؟ أجاب هو ذاته:
كنت سأرفض لأن بعض ما يشربونه يبدو أنه شراب حرام..
الآن هو المكان
المشار إليه.. جموع غفيرة من شرق آسيا وأحباش وارتريين وبعض أفارقة يجلسون
كلٌ في خيمته التي لا تتسع إلا لفرد واحد وهي أشبه بالمظلة يتخذونها سكناً
لهم تحت هذا الجسر في مدينة (ميتابندو) .. أشار إليه أحد الأشخاص بضرورة
شراء خيمة لتقيه المطر والبرد.. تحسس جيوبه .. لا شيء.. بقي في الانتظار
الذي لم يدم طويلاً قبل أن تأتي شاحنة هرع نحوها كثير من المنتظرين فتبعهم
محمد.. ساعة أو تقل ووجد نفسه في حقل كبير ويعمل في جني العنب.. وهكذا عاد
في آخر اليوم وقد أضاف الى تعبه تعباً آخر وخمسين يورو هي حصيلة ذاك العناء
.. اشتري خيمة وطعام.. ونام .. ليحلم بقطار طويل ..
25 يوماً قضاها
هكذا بين الخيمة والحقل والحلم ثم حمل حقيبته صغيرة بها تي شيرت واتجه الى
المحطة الكبيرة فايطاليا ليست بغنية.. لذا لم يجهد نفسه في تعلم حرف واحد
من لغتها كما يفعل جيرانه تحت الجسر.. محطة روما استقبلته.. تاه.. اتجه الى
شباك التذاكر فمد يده باليورو طالباً تذكرة.. قال للبائع: لندن.. ابتسم
البائع وهو يقول: "no" .. تاه مرة أخري..... يتبع
تعليقات
إرسال تعليق