محمد جنجويد.. أكذوبة (القاتل المحترف) من كُتم الى كرايدون (3)

هرب صديقنا محمد عيسى سالم من معسكر (كرتون) فى إيطاليا فى الليلة التى تسبق إجراء البصمة عليه ورفاقه.. ليستغل قطار بلا وجهة محددة وينزل فى محطة كبيرة لمدة 25 يوماً أمضاها فى خيمة صغيرة تحت جسر المدينة ميتابندو.. 25 يوما يهرع مع جيران الجسر نحو الشاحنات التى تقلهم لمزارع العنب والتفاح والبطيخ ..ولأن غايته فقط هي بريطانيا خرج ذات صباح من خيمته ولم يتجه نحو الشاحنة التى كادت أن تمتلئ بجيرانه بل قصد المحطة وركب القطار..
تركناه تائهاً فى محطة قطارات روما يحمل عملة الاتحاد الأوربي (اليورو) رفض بائع التذاكر إعطاءه تذكرة الى لندن ولم يستفسره عن السبب لأنه لا يملك لغة الاستفسار..
عاد الى شباك آخر وذات الرفض : نو وابتسامة..  يكاد يكون قد جال على كل باعة تذكار المحطة.. الى أن قال له أحدهم : باسبورت ..فهز هو رأسه بالنفي فعاد البائع الى إجابات زملائها السابقة : نو مع الابتسامة..
جلس هناك حوالي ثلاثة ساعات حتى عثر شاب سوداني يحمل صحيفة ايطالية فهرع إليه وأوقفه وسأله المساعدة.. قال الشباب السوداني والذي لحسن الحظ نال الإقامة بايطاليا منذ ثلاث أشهر و حكى له عن صعوبة الخروج من هنا الى لندن غير انه أعطاه خيار أن يغادر الى فرنسا.. فوافق . .لا يهم أن يطول الطريق الى بريطانيا فالهمم أن يصل.. الشاب السوداني نسخ له صورة من إقامته ليتمكن من شراء تذكرة لنفسه شكره على ذلك.. وابتسم هو يستعيد مصاعبه فى الرحلة . تجيء على خاطره صورة متخيلة لمصطفي أبنه الذى سيكون الآن فى عامه الخامس .. فتشبث بحلمه أكثر حتى لا يضطر مصطفي الى سلوك ذات الدرب.. انتبه الى انه يقبض بقوة على ورقة وجدها صورة إقامة سوداني لم يسأله عن أسمه ولا هو فعل ولا يستطيع قراءة الاسم المكتوب بايطالية..
أكثر من ربع ساعة بعد أن استلم صورة الإقامة وودع صاحبها ظنها تعادل ساعات اليوم كاملة وهي يتحرق للوصول الى شباك تذاكر.. الآن أيقن أن صاحب الإقامة قد غادر المحطة حتى لا يتسبب له فى إشكالية فى حال اكتشاف أمرهما فتوجه الى الشباك ومد يده بالنقود وهو يقول: باريس .. بائع التذاكر استلم صورة الإقامة قبل القروش وتطلع فيها ونظر الى محمد قليلاً... الذى أخذ يسعل ويضع يده على فمه فيرجع له البائع صورة الإقامة ومعها تذكرة لباريس ...أنتبه الى أنه قال للبائع دون أن يشعر ودون أن يقصد وبالايطالية شكراً.. فتبسم البائع..
ومحمد ينتظر القطار شاهد ذات مشهده الذى عاشه قبل أن يلتقي الشاب السوداني.. شاب خمن أنه من تشاد وكان كذلك يجلس على مقعد المحطة وبجواره حقيبة بائسة و ينظر فى أسى للمغادرين والواصلين.. اتجه محمد ولم عليه بالعربي فرد التشادي التحية فوجد أنه يعاني ذات الأمر ... يدريد المغادرة ولا يملك وثيقة رسمية تسمح له بتحقيق ذلك... سأله محمد: إلي اين تسافر؟..
أجاب التشادي :الى أية مكان..
هو نسخة تشادية منه..
سأله محمد: باريس تنفع؟
أجاب التشادي: تنفع ونص وخمسة..
وضحكا ومحمد يقوده الى ماكينة التصوير ويعطيه نسخة من إقامة سوداني لا يعرف عنه شيئاً سوى سودانيته ..
الآن كليهما يحمل تذكرة برقم مختلف والى ذات المحطة باريس وبصورة إقامة لشخص واحد وليس لأحدهما.. ركبا  على عربة مختلفة حتى لا ينكشف أمرهما.. لكن شعور الرفيق لا يفارقهما ..اتفاقا أن يلتقيا فى محطة لكن هذا لم يحدث فالقطار هناك لا يتوقف إلا بما يسمح بنزول واصل وصعود مغادر وبسرعة..
لم يلتقيا إلا في فرنسا صباح اليوم التالي لمغادرتهما روما.. هنا قال محمد التشادي ما أوصاه به صديقه السوداني صاحب الإقامة : عندما تصل باريس تغادر بعدها بالقطار الى مدينة صغيرة يمكنك من هناك الهروب الى بريطانيا ... بقيا فى المحطة بلا دليل حتى جاءهم شاب إفريقي مد يده مصافحاً وسألهما:
مسلمان؟
هزا رأسيهما.. أن نعم..
قال لهما: الله اكبر..تريدان مساعدة؟..
أجابا نعم..
أخذ من كل منهما 170 يورو وعاد لها بتذكرتين الى مدينة تسمح لها بالهروب .. ثلاث ساعات بقيا ينتظران القطار ولم يأت.. مدا بتذكرتيهما لـ(خواجة) فأشار لها بالصعود الى اعلي وفعلا ذلك ليتبين لمها أن محطة المغادرة من هنا وليس فى مكانهما الذى وصلا إليه ..
الدقائق التالية كشفت عن نموذج لأفارقة محتالين وهو صاحبهما صاحب السؤال: مسلمان.. التذكريتين مضروبتين ومزورتين وقيمة التذكرة فقط 12 يورو.. ضحكا ومدا بـ24 يورو لشباك تذاكر وحصلا على تذكريتين لمدينة (كاليس) وصلا لها ونزلا وخرجا من المحطة الى الطريق الرئيسي ليعبراه الى الغابة وهذا ذات وصف صاحب الإقامة.. ليجدا أن الغابة تضج بحياة زملاء المغامرة.. كل العالم يهاجر... أفغان وآسيويون وأفارقة، بل وخواجات كمان.. الغابة كلها مكان لرحلة ترفيهية. أولئك  يطهون طعامهم وهؤلاء يتصفحون الصحف وبعضهم يلعبون الكوتشينة ..انضم هو رفيقه الى شجرة تضم عدة مجموعات ليلتحق بهما سوداني فيفرح محمد ويقابله بالأحضان.. هو من سيحقق لهما حلم الخروج من فرنسا..
قال له محمد :الوصول الى بريطانيا؟
ابتسم السوداني وهو يقول: هنا لا تختار الى أين تهرب.. نحن ننتظر العربة التى تأتي وتكون فيها فرصة لهروب على متنها وهي تأخذك الى حيث تذهب هي ..لا حيث ترغب أنت.. هنا يا صاحبي ما في هجرة طلب..
سأله محمد الذي ظن أن رحلته الى بريطانيا ستطول أكثر مما ينبغي..:
يعني شنو؟..
أجاب: يعني لو ركبت عربية أنتو حظك ممكن تلقاها ماشة السويد أو النرويج أو اسبانيا، لكن معظم العربات التجي بي هنا ماشة بريطانيا لأنه يفصلها عن فرنسا النهر ده وبيقطعوه بي باخرة فى اقل من 5 دقائق..
استلم من محمد 100 يورو وقال له: كن مستعداً..
ابتسم محمد هو قد كان مستعداً منذ أن امتطى قارباً بلاستيكياً من شواطئ ليبيا فجر يوم 17/6/2006م..
محمد الآن يرافقه السمسار السوداني ورفيقه سمسار كردي يقودانه الى شاحنة متوقفة فى محطة وقود.. قال له السوداني: صاحبي الكردي ده حيمشي للشاحنة ديك يفتح ليك باب الباب أنت تتلفت يمين وشمال لو الجو هادي تفتح الباب بسرعة وتركب حتلقى بضاعة وكراتين تختبئ بينها وربنا يكتب السلامة.. أها ودعناك الله..
الأمر تم بسهولة... هو الآن بين الكراتين ليجد هناك مغامراً آخر أفغاني بقيا بين البضائع ..صوت محرك الشاحنة دقائق وتتوقف.. حوار بالفرنسية بين السائق وآخرين تأكد لهما أنهما من الشرطة لسماعهما صوت جهاز التفتيش (تيت.. تيت.. تيت) قبل إن يسمعا صوت يقول : قو . والسائق يرد .. ثانكس.. محمد يثق الآن أنه سيصل الى بريطانيا فيعود الى مقره بين الكراتين ويرسم صورة لبريطانيا دون مصاعب في ظنه أنه دفع فى سبيل الوصول إليها كل المصاعب وبذل فى سبيلها التعب والعناء والجوع.. لو كان يدري أنه بعد اقل من 5 دقائق سيتحول الى محمد جنجويد وقاتل شريك فى قتل أكثر من 300 ألف شخص لما بدأ الرحلة ولبقي هناك في دامرة الشيخ بكتم.. لكن كرايدون تنتظره......يتبع

صحيفة الخرطوم 4/5/2013م

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة