قطاع الشمال أم قُطّاع طرق الشمال؟

بحكم تتلمذ كلٌ من ياسر عرمان وعقار والحلو على يد زعيمهم الراحل قرنق، فإنهم فيما بدا حتى الآن يحاولون محاكاته وتقليده حرفياً وليس اقتفاء طريقته فى إدارة الصراع. ونحن نتحدث عن المحاكاة والتقليد نعني تماماً ما نقول لأن هؤلاء القادة يطبقون نماذجاً طبقها قرنق فى ظل ظروف ومعطيات مختلفة تماماً عن الحاضر الراهن محلياً وإقليمياً ودولياً والمجال هنا لا يتسع لتعداد الفوارق الجوهرية الشاسعة بين ما فعله قرنق ويفعله هؤلاء التلاميذ ولكن الأمر الأكثر وضوحاً أنهم يحاولون إلباس قطاعهم ثوباً أكبر بكثير من حجمه وبمواصفات حياكة أكبر بكثير من قدراتهم الفنية ذلك أن فكرة ما يسمى بالجبهة الثورية ما هي إلا ذات تجربة التجمع الوطني فى التسعينات، حركات مسلحة متحالفة مع أحزاب رأس الرمح فيها العمل المسلح الذى تقوده الحركة الشعبية فهي تقاتل -بوقود التحالف- وهي التى تفاوض بأجندتها الخاصة وتناور وتكرّ و تفرّ.
الهجوم الذى نفذته الثورية فى شمال كردفان كان محاكاة واضحة حين ضرب قرنق توريت فى ظل مفاوضات نيفاشا. تكتيك محاولة إفشال المفاوضات لإعطاء الطرف الآخر انطباعاً بخطورة موقفه هو ذات ما كان يفعله قرنق وفعله الآن عرمان فى أديس.
إنهم يحاكون قرنق فى كل شيء حتى الملابس الإفريقية  المزركشة ذات الطابع المحلي ولكن -لسوء الحظ- فإن التاريخ –وفق القاعدة المعروفة الثابتة– لا يعيد نفسه، وإذا حدث وأن أعاد نفسه فهو يعيدها إما فى شكل ملهاة أو مأساة! ويبدو أن هذا ما بات ينطبق على ما يسمى بقطاع الشمال.
هجوم الثورية على شمال كردفان بقصد إشعار الآخرين أن ذراع الجبهة الثورية طويلة وأنها قادرة على الفعل فى الواقع كلفها ثمناً استراتيجياً باهظاً، ففي حالة قرنق كانت هنالك قضية تاريخية متوارثة، وخصوصية معروفة للجنوب وكان قرنق يستفيد من كل ما يقع تحت يده من أبناء الأطراف بغية نقل الحرب الى الشمال حتى يرضخ يستجيب.
فكرة قرنق على عبقريتها لم تتيح له تحقيق هدفه، ففي النهاية اضطر للجلوس للتفاوض بذات معطيات العام 1983 عام اندلاع تمرده . لم يكن هنالك من جديد أضافه طوال أكثر من عشرين عاماً، لم يهدد حتى عاصمة الإقليم جوبا ولم يحتل مدينة إستراتيجية دعك من أن ينجح فى نقل الحرب الى الشمال.
صحيح أنه خلق بؤر قتالية فى أرجاء عديدة من البلاد واصطحب معه (مناضلين) ليسوا من إقليمه ولكنه فعل ذلك لهدف لم يمهله القدر ليفصح عنه وإن كان واضحاً أن هدفه كان بسط سيطرته على السودان.
فيما يبدو الآن فإن تلاميذ قرنق يحدثون أنفسهم عن ذات ذلك البرنامج المقبور ويقولون: ولم لا؟ فلنجرب، وهذا بالضبط مكمن خطأهم الاستراتيجي الخاطئ، فالتفاوض فى ظل المعطيات الماثلة كان من السهل أن يكون نجاحاً كبيراً للقطاع لو أنه تحلّى بالصبر والمثابرة وإظهار حسن النية، ذلك أن ما لم يستوعبه عرمان وعقار أن الحكومة السودانية في قرارة نفسها زاهدة تماماً في التفاوض معهم ليس فقط لأنهم يحاولون إعادة إنتاج ذات الأزمة؛ ولكن لأنهم منبوذين سياسياً على المستوى السوداني العام ويعتقد الكثير من السودانيين أن قضيتهم انتهت عملياً بانتهاء قضية الجنوب وطيّ صفحة النزاع التاريخي الدامي .
إذا كان الأمر حقاً يتعلق بالمنطقتين -جنوب كردفان والنيل الأزرق- فإن كيفية ترتيب أوضاعهما إنما يتم عبر تفاوض هادئ وموضوعي لتسريح وإعادة دمج القوات وإنفاذ المشورة الشعبية ومعالجة القضايا الإنسانية. أما وأن يمتدد القطاع – وهو يلبس زي الجبهة الثورية – سعياً لإعادة عقارب الساعة للوراء فهذا مما يعد في حكم المستحيل، ولهذا فإن قطاع الشمال بهذا المسلك الخاطئ وغير المبني على حيثيات موضوعية إنما يسعى لعزل نفسه وتقطيع آصرته السياسة بالساحة السياسية السودانية عامة، فقد تحول الى عدو حقيقي للمواطنين فى الشمال السوداني العريض يدمر مرافقهم الإستراتيجية ويذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويتحاشى المواجهة مع الجيش السوداني.
كيف لقطاع بهذه الصفات المخجلة أن يحصل على تعاطف مع قضيته؟ من المؤكد أن الصلة قد انقطعت تماماً بين القطاع والشمال . لن يقبل أي معتوه أن يكون أمثال عرمان والحلو وعقار والمذابح التى ارتكبوها فى أبو كرشولة هم قادة سياسيين لهذا البلد، وعلى العكس تماماً فكلما توغلوا الى العمق السوداني كلما اتسع نطاق أعدائهم وكلما أثبتوا للناس جميعاً أنهم مجرد قطيع يقطع الطريق وانقطعت صلته تماماً بالسودان!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة