المنطق يحتم بأن ما جرى فى ولاية شمال كردفان لم يكن مجرد تكتيك حربي
قصدت به الجبهة الثورية تحسين موقف قطاع الشمال فى المفاوضات الجارية
بالعاصمة الإثيوبية أديس, قد يبدو الأمر فى ظاهره كذلك وهو ما قال به غالب
المراقبين والمحللين السياسيين ولكن جوهر ما جرى هو البحث عن أزمة إنسانية
فى وسط السودان قريبة قرباً شديداً ومعقولاً من المركز تتيح للقوى الدولية
استجلاب منظماتها المعروفة لتعمل فى مكان قريب من المركز، يتيح هو الآخر
عملاً أكثر فاعلية في سياق إحكام الضغط والسيطرة على السودان ولو لم يكن
الأمر معداً ومخططاً له بعناية لاجتماع مجلس الأمن فى جلسة عاجلة طارئة
واصدر ولو بياناً يدين فيه ما حدث لأن ما حدث إنما حدث تحت سمع وبصر العالم
ولا يحتاج الى أدلة موثقة.
القوى الدولية فى مجلس الأمن يناسبها وجود
أزمة إنسانية خانقة تتمثل فى موجة النزوح العارمة التى اجتاحت مدن الولاية
وتركزت بصفة أساسية فى منطقة الرهد التى قالت مصادر محلية مطلعة إن
النازحين تجاوز عددهم الـ12 ألف فى ظرف يومين فقط من مناطق أم روابة وأبو
كرشولة والمناطق المتاخمة.
كان واضحاً أن هناك من أشار الى قادة
الثورية بأن تصرّ في قاعة المفاوضات على إيلاء العمل الإنساني الأولوية فهو
فى حساباتها مفتاح التدخل وخلخلة الأزمة وحين لم يتسنَّ ذلك فإن من
الطبيعي أن تكون الإشارة بصنع أزمة طازجة لا فكاك من التعامل معها، بضع
دانات وقذائف فى مدن قريبة من العاصمة كفيلة وكافية لإطلاق موجة نزوح هائلة
فى ظل شائعات وبلبلة وسط الرأي العام باتساع رقعة الحرب وإمكانية شمولها
لمناطق رئيسية فى العمق السوداني.
الأمم المتحدة لم تفعل طوال الأسبوع
الذى شهد الحادثة سوى التعبير عن صدمتها مما حدث، ولكن لم يتجاوز الأمر
ذلك. فهي تنتظر الخطة المطلوبة لمجابهة نتائج ما حدث حتى إذا ما كان موعد
الجولة القادمة من المفاوضات فرض الملف الإنساني تلقائياً نفسه فى
المفاوضات وربما لهذا السبب سيظل المجتمع الدولي وباستمرار يعلق كل
اهتماماته على دخول المنظمات الاغاثية الى المنطقة بحيث يتحول مسرح الأزمة
من جنوب كردفان وحدها ليشمل كل مناطق كردفان وبحيث تصبح المسافة بين مسرح
النزاع والأزمة والعاصمة السودانية ما يقل قليلاً عن 150 ميلاً فقط!
إن
من الصعب فهم ما جرى بخلاف هذا السيناريو المعد بدقة وإحكام والذي من
المؤكد أنه اعتمد على عمل استخباري رفيع وذي قدرات عالية شكلت سنداً
داخلياً للمعتدين أعانتهم على تحقيق عنصر الصدمة المفاجأة وهذا بالضرورة
معناه أن هنالك عمل ظل متصلاً لأشهر وسنوات –كما هو عمل المخابرات– فى
المنطقة بسرية محكمة بحيث تم اختيار التوقيت والمكان بدقة شديدة.
الحكومة السودانية من جانبها فطنت منذ الوهلة الأولى الى طبيعة اللعبة فهي
اكبر من قدرات الجبهة الثورية ولا يمكن للثورية – مهما أويت من قوة – أن
تغامر مغامرة كهذه إن لم يكن ظهرها مؤمناً، كما لا يمكنها تصور أنها كانت
تهدف لعملية احتلال لأيٍّ من مدن المنطقة ففي ذلك انتحار لا جدال فيه لأن
الجيش السوداني سيحرص على القضاء على المحتلين قضاءاً تاماً.
كل مهمة
هذه القوات المتمردة كانت إشاعة الخوف والفوضى فى تلك المناطق لينزح عنها
سكانها ويتكفل المجتمع الدولي بالباقي وذلك بإنشاء معسكرات وبعد إنشائها
يحاول تأمين قوات دولية لتأمين المدنيين على ذات الطريقة التى شهدتها
دارفور ومن ثم تصبح يد الحكومة السودانية مغلولة.
ولهذا فقد رفضت
السلطات السودانية منذ وقوع الحادثة مجرد التفكير فى إنشاء معسكرات كما أن
المواطنين تكفلوا بإيواء النازحين رغم ضخامة العدد وقلة الموارد
والإمكانات، ففي الوعي السياسي الجمعي لمواطني المنطقة أن الأمر مقصود به
تكرار أزمة دارفور ومعسكرات النازحين ذات البُعد الدعائي البغيض.
وعلى
كلٍ سيظل المجتمع الدولي يضغط باتجاه الإغاثة وإقامة المعسكرات وسترفض
الحكومة ويتمكن الجيش من تأمين المنطقة ويعود النازحين بسرعة الى مناطقهم
وتفشل الخطة.
تعليقات
إرسال تعليق