جوبا الخرطوم.. النجاح فى أصعب امتحان!




من المفارقات العجيبة فى المسار الحالي للعلاقات السودانية الجنوبية أنه وعلى العكس تماماً من التوقعات التى مضت باتجاه تأزم العلاقة وتدحرجها الى الأسوأ جراء حادثة مقتل سلطان دينكا نقوك مجوك دينق الأسبوع الماضي، أن الحادثة ورغم شدة خطورتها وحساسيتها البالغة كانت عنصراً مهماً وفاعلاً فى تقوية وتمتين الرابط السياسي بين الدولتين.
فمن خلال اتصال هاتفي أعقب الحادث مباشرة بين الرئيسين كير البشير كان الطرفان قد عملا على تسوية تداعيات الحادثة ونزع فتيلها ووضع تدابير تحول دون انفجارها.
بل إن الأمور حتى على مستوى مسئولي البلدين خاصة فيما يلي التصريحات هنا وهناك لم تصل الى درجة المساس بما أمكن انجازه من توافق وما تم توقيعه من إتفاقيات . إن كان فى هذا الموقف من أمر يستلفت النظر فهو ما بدا من رغبة مشتركة ومتبادلة على المضي قدماً من جانب البلدين باتجاه ترسيخ العلاقة المتنامية بينهما، وهذه تحقق أحد أهم أهداف اتفاقية التعاون المشترك وهو عدم تأثرها بالمتغيرات العابرة والأزمات والكوارث التى تحدث من حين لآخر.
وبمثلما استطاع الطرفان -و بامتياز- أن يتجاوزا هذه الحادثة بكل ما تحمله فى جوفها من متفجرات ومهددات بالغة الخطورة، فإن الذين تسببوا فى الحادثة - قصداً أو مصادفة - أدركوا وبقناعة كاملة أن علاقة الدولتين لم تعد قابلة للاهتزاز وحتى لو اهتزت فإن ربان مركبتيّ البلدين قادرين على السيطرة عليها في وجه أعتى الأمواج.
وعلى ذلك فإن ابرز مستخلصات هذا الموقف يمكن أن نشير إليها فى عدد من النقاط المهمة . فمن جانب أول –وهذا ابرز النقاط المهمة– فإن العلاقات بين الدولتين تجاوزت فى هذه الفترة الوجيزة نقطة الشكوك والهواجس وانعدام الثقة وهي أمور كانت وإلى عهد قريب تعرقل أي تقارب بينهما، بل بدا أنه حتى لو ثارت الهواجس والشكوك هنا أو هناك فإن من الممكن الفصل بين مسارات هذه الشكوك والهواجس ووضعها فى خط؛ والاحتفاظ بالعمود الفقري الرئيسي للعلاقة بين الدولتين  لتكون هي فى خطها الرئيس الغير قابل للتحريك أو التغيير أو التبديل.
ومن هنا يمكن أن يصبح القول إن الحادثة -رغم فجيعتها- أفادت بدلاً من أن تضر. ومن جانب ثاني فإن الحادثة بدت وكأنها (امتحاناً مقصوداً) لجس نبض العلاقة بين الدولتين، (وقياس ضغط الدم) وفوجئ من كان وراء الحادث أن الضغط طبيعي والنبض في معدلاته العادية! وهذا من شأنه أن يقضي تماماً -فى الحاضر والمستقبل- على أية محاولة لإفساد علاقات الدولتين بأي وسيلة أسوأ من الوسيلة التى استخدمت فهي وسيلة لإيقاع الفتنة وخلخلة البنيان الاجتماعي فى منطقة حساسة بحيث تخلخل بدورها البنيان السياسي وتندلع الحرب.
من جانب ثالث فإن الحادثة كشفت عن شيء مهم جداً وهو أن يكون اعتماد الدولتين – فى المقام الأول والأخير – على درجة الثقة المتنامية بينهما وإبعاد أية مؤثرات أخرى ومع أن هذا ما حدث بالضبط وحالَ دون تفجر الأوضاع، إلا أنه أمر قابل للتكرار بحيث يتعين الانتباه أن الحادث إن كان مقصوداً ولم تتحقق نتائجه المتمثلة في إثارة الغبار حول علاقة الدولتين فإن الذين خططوا له ورأوا أنه لم يحقق هدفهم سيحاولون مرة أخرى وبطريقة مماثلة أو مختلفة حتى يترسخ الشك أو تفلت العقول من عقالها.
المستخلص الأخير من حادثة أبيي هو أن القادة المنتمين الى المنطقة والذين ربما راقت لهم الحاثة كونها تنذر بعواقب وخيمة تتيح لهم استعادة البلدة المتنازع عليها -سلماً أو حرباً- خبا ظنهم بشأن ردة فعل قيادتهم الجنوبية فقد توقعوا إيقاف ضخ النفط وتجميد المصفوفة وانهيار الاتفاق بكامله. ولكن هذا ما لم يحدث وحتى ولو كان بالإمكان أن يحدث بعد الآن فلن يكون له مذاق كالمذاق الذى كانوا يتوقون إليه ومعنى ذلك أن تأثير هؤلاء داخل قيادة الحركة فى جوبا بات سنحسر شيئاً فشيئاً حتى التلاشي.
وعلى كلٍ فإن حادثة أبيي شكلت أصعب اختبار لعلاقة البلدين ولكنهما نجحا في امتصاص صدمة التضاغط الأولى بجدارة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة