نحن من جيل في دارفور لم نخُض مع الخائضين في لجج ووحول القبليَّة
وتنازعاتها وتصارعاتها، ولم نعرف لها لوناً ولا طعماً ولا رائحة، عشنا في
مدينة نيالا رغم امتدادات الانتماء كلٌّ إلى منابته الاجتماعيَّة، إلا
أنَّها لم تكن يوماً تصنيفاً ولا نهجاً ولا جزءًا من الحياة التي عشناها
وعرفناها.. ولذا فإنَّ ما يجري اليوم في دارفور بين قبائلها وعشائرها لأمرٌ
غريب ومريب لم نعهدْه بهذه الكيفية ولم نرَ مثيله أبداً!
لقد حدث
انعطاف هائل في صراعات قبائل دارفور كما قال لي بالأمس الفريق أول شرطة
الطيب عبد الرحمن مختار وهو عائد من جولة وساطة قبل أيام بين قبائل جنوب
وشرق دارفور، فقد تحوَّلت الصراعات من طابعها التقليدي القديم إلى صراعات
ذات قوة تدميريَّة عالية خربت الأواصر وهتكت الأمشاج والوشائج وصلات القربى
والدم بين الأهل والمواطنين الذين عاشوا معاً ضمَّتهم الأمكنة واحتفت بهم
الأزمنة..
الجديد في هذه الصراعات أنَّها بمسبِّباتها المعروفة، إما
طلباً لثأر أو نهبًا لهوام ودواب أو نزاعًا حول بئر أو بسبب امرأة ونزوات
عابرة، امتطت جوادًا مخبولاً اسمه الصراع على خلفيَّة الأرض والحواكير
وملكيَّتها، وتوالدت فيها ممارسات ودعوات غريبة لم تكن مألوفة ولا معروفة
ولا مصرحًا بها وإن كانت موجودة. وأضحى السلاح المستخدَم في الصراعات
القبليَّة هو الأعنف حيث تنتشر الأسلحة بكل أنواعها وصنوفها، وصار السلاح
الثقيل من المدافع والرشاشات الثقيلة والمقذوفات الصاروخيَّة هو عتاد
المعارك وفيصلها..
فالغريب أن تُثار اليوم قضيَّة ملكيَّة الأرض في صراع
البني هلبة والقمر والسلامات والتعايشة والرزيقات والمعاليا والبني حسين
والأبالة والسلامات والهبانيَّة وغيرها من الاحترابات التي يُزهق فيها
أرواحٌ كثيرة بلا مبرِّر..
والمحزن أن تتبنَّى قيادات سياسيَّة ومتعلمون
وسط هذه القبائل، هذه الآراء المتخلِّفة وتتحصَّن في جُدُر العصبيَّة
النتنة، بدلاً من أن تكون حمائم سلام واستقرار ومعاول بناء للصلات القديمة
وتمتينًا لحبالها الممدودة.. فكل صراع قبلي يتصدَّى له اليوم ليقوده، ليس
الدهماء والسابلة من الناس، بل المتعلمون والساسة المحترفون كسبًا لمغنم
زائل وطمعاً في منصب كضل الضحى، أو محاولة للتزيُّد الرخيص بالمكانة
المرموقة وسط الكيان القبلي..
ويتهم بعضُ الناس الحكومة أنَّها أذكت هذه
النار النجسة بين القبائل وأوجدت فتنة العنصر والقبيلة بين المجموعات
السكانيَّة في دارفور وغير دارفور، وبالرغم من التحفُّظ على هذا القول على
عواهنه وإطلاقه، إلا أنَّ جوانب منه غير مباشرة هو الصحيح... فقد ابتدعت
الحكومة ووافقت منذ عقد التسعينيات، على ظهور وبروز وشرعنة ما يسمَّى
بمجالس شورى القبائل، وهي خطر داهم حلَّ على الناس، فقد قامت المجالس
المشبوهة هذه على خدمة الأهداف السياسيَّة وليس الاجتماعيَّة للقبائل،
وبدلاً أن تخدم أهدافًا نبيلة وتعزِّز من التعارف والتلاقي، نجدها اليوم
وهي تنهض على حساب الإدارة الأهليَّة، تتولَّى مهام التحريض وشحذ المشاعر
السالبة والكراهية، لأن من يقومون عليها تحرِّكهم غرائز الانتماء القطيعي
وليس سُبُل الرشاد..
نحن أمام وضع مأزوم بحق وسيتطوَّر بشكل مُحزن إن لم
نجد عقلاء بين القبائل في دارفور يكبحون جماح هذا الهَيَجَان القَبَلِي
الطائش، فقضايا الأرض والحواكير بالرغم من أنَّها قضايا دولة ونُظُم
وقوانين، ليست مجلبة للتناحر والاحتراب، بل يتم التعامل حولها بالمساكنة
والمراحمة والمواددة والمنافع المتبادلة، فالعصبيَّة للأرض ليست من الحكمة
والتعقُّل في شيء.. والتقاتُل حول قضيَّة غير واقعيَّة فقط من أجل التعصُّب
للعِرق والأرض لهو انحدار إلى هاوية ليس لها نهاية ولا تُنبئ بأنَّ
مجتمعنا سيمضي نحو غاياته بخير..
قبل أن تستفحل الصراعات في جنوب دارفور
بين القمر والبني هلبة والتعايشة والسلامات والمسيريَّة في أقصى جنوب غرب
الولاية أو بين الرزيقات والمعاليا، يجب أن ينهض جيلٌ جديد غير ممتلئ
بالعُقد القبليَّة والانتماءات الضيِّقة ليتحدَّث لغة جديدة، ليعمل مع من
بقي من العقلاء وأهل الحكمة، لانتشال دارفور من صراعاتها المميتة وتعزيز
فرص التعايش السلمي..
تعليقات
إرسال تعليق