أعاب البعض من الناقمين على ما يجري فى مصر الشقيقة على الحكومة السودانية
تعاملها مع الحكومة المصرية المؤقتة في القاهرة والتي جاءت على أنقاض
وأشلاء النظام المنتخب الذي كان يمثله الرئيس مرسي، أعابوا عليها على وجه
الخصوص قبولها زيارة وزير الخارجية المصري الى الخرطوم نبيل فهمي فى التاسع
عشر من أغسطس الماضي. فهل بالفعل يعتبر موقف الخرطوم من القاهرة موضعاً
للنقد؟
الواقع إن الخرطوم وقفت موقفاً صارماً بعدم التدخل فى الشأن
الداخلي لأي دولة مهما كانت درجة قربها منها ومن المهم الوضع فى الاعتبار
هنا أن الموقف ينبغي أن يكون مدخلاً للمدح والإطراء بدلاً من الذم
والانتقاد الحاد، فالعلاقات الدولية – مهما نسي البعض – تقوم على الاحترام
المتبادل وعدم التدخل في شئون الغير الداخلية.
صحيح أن الدماء التى
سالت دماء بريئة وغالية، وصحيح أيضاً أن العلاقة بين البلدين ترتبط برابط
سياسي مقدس وصحيح أيضاً أن السودان عمق استراتيجي حقيقي لمصر وظهر وسند
أمني لها، ولكن السياسة لا تعرف العواطف والحسابات الفردية المضطربة.
لقد عانى السودان طوال عقدين ونيف من الزمان من التدخل الدولي في شئونه
الداخلية وكلفه هذا التدخل وما يزال يكلفه الكثير من سمعته ومسيرته ونهضته
ولكن ليس من حق السودان أن يتقاطع مع مواقفه بهذه الحدة بتدخله فى شأن
سياسي داخلي.
لقد كان بوسع السودان أن يقول ويفعل ما قالت وفعلت العديد
من الدول ولكنه انتهز السانحة ليؤكد للعالم أنه لا يتدخل فى شئون الآخرين
وإن تدخلوا فى شئونه فعسى ولعل أن يكفي هذا الموقف عنه شر المتدخلين فى
شئونه.
لقد بدا واضحاً أن هندسة دقيقة للسياسة الخارجية السودانية تجري
بدقة بعيداً عن الشطحات والصياح والبعد عن الموضوعية، ولهذا فإن جملة من
الفوائد السياسية حققها السودان من هذا الموقف تتمثل فى: أولاً، كسب ثقة
العالم بصفة عامة إذ أن الكثير من دول العالم كانت تنتظر من السودان أن
يتدخل بحكم آصرة القربى السياسية وأن يتورط فى مستنقع آسن هناك لكي تسيمه
صنوف العذاب ولكنه لم يفعل ومن ثم تأكد لهذه الدولة الجهات –الدولية
والإقليمية – وعملياً، أن السودان ملتزم بهذا المبدأ الأخلاقي الكبير.
الأمر
الثاني أن السودان بموقفه هذا كسب أيضاً أطراف الأزمة فى مصر الشقيقة إذ
من المؤكد أن الأمر يحتاج لمعالجة في يوم ما ووساطة بدرجة ما للمّ الشمل
السياسي فى مصر وبقاء السودان على موقفه من الأزمة يمنحه فرصة واسعة وثقة
كاملة فى التوسط فى الوقت المناسب بعدما يكون طرفيّ الأزمة لاحظوا موقفه
ووثقوا به، فهناك العديد من الدول التى فشلت فى التوسط لأنها منذ البداية
أعلنت موقفها المنحاز لطرف من الطرفين المتنازعين ومن ثم فهي فقدت صفة
الحيادية والموضوعية.
الأمر الثالث أن السودان تعلم - وفق هذه السياسة -
وعبر مِران علني وعملي كيفية الثبات على مبدأ سياسي ربما بدا صعباً
وشاقاً، ولكنه خير دواء لأيّ داء.
لقد كان مراناً جدياً مارسه السودان
فى ممارسة أقصى قدر من الحيدية وضبط النفس رغم كونه جاراً قريباً وربما
هاله ما جرى وأدمى قلبه ولكنه صبر على موقفه وهو ما يرشحه لأن يقف مثل هذه
المواقف مستقبلاً ويشتهر على النطاق الدولي بأنه ملتزم بسياسة عدم التدخل
في الشئون الداخلية للدول الأخرى وهو أمر غير قليل وشديد الأهمية!
تعليقات
إرسال تعليق