مــــاذا بعــــد الأجــــور؟

ستُدعم أجور العاملين بالدولة وتُزاد بنسبة حدَّدها رئيس اتحاد العمَّال البروفيسور إبراهيم غندور ما بين «11%» و«55%» في مطلع يناير القادم، وستكون بالتأكيد عقب فراغ الحكومة من وضع نصل سياساتها الاقتصاديَّة الجديدة على رقاب المواطنين بعد رفع الدعم عن المحروقات وسلع أخرى.. وبعد أن يعلو لهيب نيران الأسعار ويستعر أوارها ويُسمع لها شهيق وزفير...
ما الذي يستفيده الناس بعدئذٍ من زيادة الأجور، التي تكون قد ابتلعتها بالوعة السوق، والتهمتها بطون الجشع والطمع؟
إذا كانت الحكومة سترفع الدعم عن بعض السلع، لمعالجة ما تسمِّيه تشوُّهات الاقتصاد ومنع المضاربين والسماسرة وكبح جماح التهريب ومنعه ووقف نشاطه، فإنها بالتأكيد لن تستطيع برغم زيادة الأجور لجْم ما يترتَّب على سياسة رفع الدعم عن السلع، فسينفلت السوق ويصيبُه سُعار حقيقي، وتنهش أنيابُه الحادَّة جسد المواطن.. ولات حين مندم ومناص!
 وتتحدَّث الحكومة عن إجراءات متلازمة في حزمة الإصلاح الاقتصادي، من بينها خفض الإنفاق الحكومي، وهو ما لم يحدث عندما أُعلن عنه غداة الإعلان عن البرنامج الثلاثي الاقتصادي قبل ثلاث سنوات تقريباً وعقب كل موجة وباقة من القرارات التقشفيَّة القاسية..
فالحكومة لن تستطيع الحدّ من شراهتها في الصرف، ولا «يسد نفسها» شيء، فإذا كانت قد عجزت عن وقف التجنيب، وفشلت فشلاً ذريعًا في تنفيذ القرارات بتصفية الشركات الحكوميَّة وعجزت وزارة المالية بكل سلطانها وصولجانها عن فرض ولايتها على المال العام، وبُح صوت المراجع العام بالتعاون مع الوزارة، في الحدّ من تجنيب الأموال وردع الفساد وتجفيف قدرة مراكز القوى داخل الحكم على تحصين نفسها من الخضوع للقانون واللوائح الماليَّة ونظامها..
لا لجاجة في أن الحكومة إن لم تتبع الرأس الذنبا، في قطع دابر الفساد والتجنيب، وتستفرغ الوسع في الاجتهاد لتقديم حلول عمليَّة لإصلاح الاقتصاد وإعادة هيكلته وبتر الزوائد والتشوُّهات عن جسده، فإنها لا محالة ستحرث في البحر ولن تجني إلا مزيدًا من الشُّوك، ويضع المواطن يديه على صدغيه من الحيرة، حين يرى الإجراءات الاقتصاديَّة المزمع اتخاذها ولا يرى في الوقت نفسه ما يتواكب معها من تطمينات واحترازات وسواتر تمنع عنه سافية التراب وعاصفتها التي ستملأ فمه وعيونه..
لقد اجتهد البروف غندور واتحادُه كثيراً في جعل زيادة المرتبات أمراً حتميّاً وناجزاً، لكن لم يدرِ لا هو ولا اتّحاده أنَّ ما تُعطيه الحكومة بيمناها تأخذه بيسراها، فالعاملون مهما زادت أجورُهم فهم فرائس وطرائد لغول الأسعار والسياسات الاقتصاديَّة التي تطأ بميسمها فوق ظهورهم وتجدع أُنوف أحلامهم...
فماذا ينتظر الناس من نتائج إذا كانت الضرائب ستزيد بنسبة «135%» مع القول بأنها ستتوسع رأسياً، وستزيد الجمارك، وسيتم معالجة العجز في الميزانية بهذه الطريقة، فإن كان كل الهدف أن الدولة تريد زيادة إيراداتها، فمن الذي يضمن أنه في حال توفرت وفورات مالية مقدرة من رفع الدعم، ألّا تُصرف في غير الضروري في مصارف الحكومة التسييرية من غير ذات العائد وتذهب «شمار في مرقة» الصرف البذخي؟!
العائد لخزينة الدولة والمتوفِّر لها من سياسة رفع الدعم عن السلع وخاصَّة المحروقات ودون الترافق مع إجراءات أخرى وضوابط صارمة، سيُنفق ويتبدَّد بسرعة كما هو الحال الآن، فقد تعودنا أن الاقتصاد دواءه المفضل هو الحبوب المسكِّنة، فكلَّما ترنَّح أسعفوه وكلَّما زادت جراحُه وضعوا عليها ضمَّادات معقَّمة بالديتول، دون التفكير في كيفيَّة وقايته من خطر الشروخ وتكسُّر النصال عليه..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة