من المهم جداً -ودون أن ندافع دفاعاً أعمى عن قرار رفع الدعم عن
المحروقات- أن ننظر الى الواقع الاقتصادي السوداني نظرة موضوعية منصفة.
فالأمر هنا لا يتعلق بأحلام سياسية أو أمانٍ وردية فحين يجري الحديث عن
الاقتصاد فالأرقام وحدها من تتحدث ولا شيء سواها.
صحيح أن الاقتصاد فى
جانب منه ليس سوى محمول من محمولات عدة للسياسة وصحيح أيضاً أن الاقتصاد
السوداني طالت فترة أزمته دون أن يقع انفراج يمكن اعتباره انفراجاً حقيقياً
يلمسه المواطن السوداني فى حياته ومعاشه. ولكن بالمقابل فإن رفع الدعم
-حتى ولو تباينت المواقف بشأنه- هو قرار واقعي وعلينا أن نضع هنا عدة
اعتبارات.
الاعتبار الأول أن السودان كغيره من بلدان عديدة فى العالم
يتبنى اقتصاد السوق بكل ما تعنيه من تحرير للأسعار وإطلاق العنان للسلع
والبضائع لتعرض نفسها وتحدد نسبة الطلب عليها.
اقتصاد السوق واحدة من
تبعاته نأي الحكومة عن التدخل لتسعير السلع كبديهية معروفة وهذا بدوره
يقتضي أن يكون كل شيء يُقدم للمواطن السوداني ينبغي أن يقدم بسعره الحقيقي،
وهذه هي المعضلة، فالحكومة السودانية لأسباب إرتئتها منذ سنوات ظلت تدعم
بعض السلع الحيوية حرصاً منها على مستوى معيشي متوازن للسودانيين وهذا هو
مربط الفرس فى الواقع فى القضية كلها.
ففي اللحظة التى شعرت فيها
الحكومة أن دعمها لهذه السلع قد أصبح عبئاً على الدولة وأنها لا تتعامل مع
الأمر بواقعية اضطرت لاتخاذ هذه القرار، ولهذا فهو يبدو كقرار عنيف أو مؤثر
بينما هو فى الحقيقة قرار يصب فى مصلحة الاقتصاد عموماً إذا كنا نتحدث عن
الشفافية وضرورات الواقعية.
الاعتبار الثاني الوثيق الصلة بالاعتبار
الأول فإن من الصعب القول إن الحكومة السودانية تملك بدائلاً أخرى ولكنها
غفلت عنها فأيِّ بديل آخر موضوعي ومعقول -إن وجد- كان سيكون أفضل لها من
خيار كهذا؛ وهو ما يشير الى أن الخيارات قد سُدت أمامها لأن هذا الخيار -إن
لم تكن الحكومة صادقة وواثقة من نفسها- هو الأخطر عليها!
بمعنى أدق فإن الحكومة لو لم تكن جادة ومضطرة لهذا القرار لما لجأت إليه لأنه -لو كانت تخشى على بقائها- لما لجأت إليه.
الاعتبار
الثالث أن الحكومة السودانية تنظر الى الاقتصاد السوداني نظرة أشمل، نظرة
إستراتيجية، فهي تواجه تحديات سياسية وأمنية وحروب على الأطراف، وتواجه
استحقاقات عمليات سلمية فى الشرق وفى دارفور (تنمية وترتيبات أمنية)
ولتواجه عملاً مسلحاً فى جنوب كردفان والنيل الأزرق. لو لم تتخذ الحكومة
موقفاً استراتيجياً حقيقياً وسط كل هذا الكم الهائل من المشاكل فإن من
المؤكد أن هذه المشاكل سوف تعصف ليس فقط بالاقتصاد ولكن بكل شيء.
وهكذا
فإن قرار رفع الدعم الذى لا يختلف خبراء الاقتصاد على كونه (علاجاً
بالكيّ) إلا أنه اقصر الطرق لمعالجة بعض أدواء الاقتصاد السوداني، وربما
تنفرج الأمور أكثر كلما تنامت خطوات التطبيع وتحسن العلاقات بين الخرطوم
وجوبا وإذا نجح السودان فى مسعاه لإلغاء ديونه.
تعليقات
إرسال تعليق