سقطة الزعتري!!


 



يان برونك دبلوماسي غربي عتيق أتاحت له الظروف تولي مهمة دبلوماسية دولية في السودان قبل (7) أعوام خلت، حين عينته الأمم المتحدة ممثلاً للأمين العام للمنظمة الدولية في السودان – المنصب كان زاخراً بالبريق والسطوة، كما كان نادراً على مستوى العالم ولكن "برونك" وتحت خدر البريق والمنصب أخطأ في رؤية الحد الفاصل ما بين ممارسة العمل الدبلوماسي بتفويض من الأمن العام للأمم المتحدة فيما يخص الشؤون الخاصة بالأمم المتحدة، وما بين شؤون الدولة المضيفة وسيادتها الوطنية، وكانت النتيجة التي أطاشت صواب الرجل أن الحكومة السودانية لم تتردد قط فيطرده من البلاد تاركة له (72) ساعة بالكاد استطاع خلالها أن يجمع حاجياته على عجل ويعود إلى نيويورك كشخص غير مرغوب فيه.

هذه الحادثة شكلت فيما بعد مادة حية للدارسين في مضمار العلوم الدبلوماسية وما تقتضيه واجبات الدبلوماسي من تدقيق عميق في طبيعة مهمته والنظر باستمرار إلى الخيط الفاصل بين الشأن الأممي وذاك الوطني الذي يمس صميم سيادة الدولة.

فيما يبدو الآن أن منسق الأمم المتحدة للعمل الإغاثي في السودان (على الزعتري) لم يكن قارئاً جيداً لتاريخ موظفي الأمم المتحدة في السودان أو أنه قرأ ولكنه لم يبد اهتماماً بما قرأ. فقد نشرت صحيفة (Bistandsaktuelt)  النرويجية الصادرة في السادس والعشرين من نوفمبر الماضي حواراً مطولاً مع الزعتري تركز بكامله حول السودان أفاض فيه الزعتري في الحديث عن الشأن السياسي السوداني حتى لتكاد تظن أن الرجل قائداً لحزب سياسي معارض في السودان حيث وصف حكم الرئيس البشير بأنه (حكم السودان لعشرات الأعوام بيد من حديد)! وأنهم في الأمم المتحدة (يتعاونون مع شخص متهم بارتكاب جرائم حرب في دارفور!).

وفي وصفه للأوضاع في السودان قال بدون أية حصافة أو دبلوماسية أن السودان بلد يعيش في أزمة! وأضاف أن الناس مرتبطين بالإغاثة والمساعدات وأن من الصعب أن يعيش الشعب السوداني دون مساعدات! وقضى الزعتري تماماً على أي أمل في أن يظهر ضوء في آخر النفق! ثم أشار إلى أن أكثر من (2) مليون طفل سوداني يعانون نقصاً في التغذية!! وبلغت ذروة الحديث المضطرب للزعتري حين قال في خواتيم الحوار بأنهم يعملون في المجال الإنساني وليست مهمتهم إصدار الأحكام!!

من المؤكد أن الرجل لامس صميم السيادة الوطنية للدولة السودانية إذ ليست من مهام موظفي الأمم المتحدة المساس بخيارات الشعب السوداني السياسية على الإطلاق، إذ أن الرئيس البشير رئيس منتخب ليس من الأدب الدبلوماسي واللياقة الحديث عن قبضة حديدية أو كونه مطلوباً فالسيد الزعتري مكلف بملف المساعدات فقط في المجال الإنساني الإغاثي، وحتى في هذا المجال كان المطلوب منه إبراز جهود منظمته في هذا الصدد ما أنجزته وما هو مقرر إنجازه وأرقام ما قاموا به لا إصدار أحكام طائشة ذات ظلال سياسية بأن الشعب السوداني مرتبط بالإغاثة وألا أمل مطلقاً في ظهور ضوء في آخر النفق!

حتى قادة المعارضة وحملة السلاح في السودان لم يقولوا ما قاله هذا الرجل في حق شعب عرف بالكرم والكرامة وتقديس العمل وارتضي أن يأخذ أهل الجنوب ثلث مساحة بلادهم كرماً وتفضلاً ولو أرادوا غير ذلك لما نشأت دولة جنوب السودان، هل يمكن وصف شعب يعطي بلداً كاملاً متنازلاً عنها ويستضيف مئات الآلاف من اللاجئين من دول الجوار منذ أكثر من (50) عاماً بأنه مرتبط بالإغاثة؟ لِمَ لم يشر الزعتري إلى الأعداد المهولة من اللاجئين من دول الجوار وأين هي تلكم الإغاثات التي يعتقد هو أن شعب السودان يعيش ويقتات عليها؟

ما من شك أن الرجل اخطأ خطأً تاريخياً فادحاً في حق وظيفته الدولية وفي حق منظمته وفي حق شعب السودان وقيادته رغم أنه يمت بصلة الدم بالشعب السوداني كونه ينتمي إلى عرق عربي! ولن يجدي الرجل الزعم أن تصريحاته (أخرجت من سياقها) فالذي يهدم هذه الأكذوبة البلقاء عدة أمور أولها : أن الصحيفة النرويجية سجلت الحوار وهو موثق صوتاً وصورة ولا مجال لنفيه أو المغالطة – بشأنه.

ثانياً : مقتضيات العمل الدبلوماسي تتطلب عادة إختيار العبارات والألفاظ بعناية والإبتعاد تماماً – مهما كانت دوافع النفس – عن الخوض في الشأن الداخلي للدولة المضيفة.

ثالثاً : من المستحيل تماماً أن يتم إخراج حوار بأكمله من سياقه فلو أن الزعتري أخطأ في إجابة واحدة أو اثنين أو ثلاثة لكان من الممكن – من باب إيجاد العُذر – قبول تبريراته بأن تصريحاته أُخرجت من سياقها ولكن الرجل ما ترك إجابة من عشرات الإجابات إلا وملأها تجنياً وتعريضاً بالسودانيين.

ليت الرجل يعود الآن ويعكف على قراءة قصة يان برونك بتدبر وتمعن، مع أن القصة – لسوء الحظ – ما عادت تجدي نفعاً أو تفيد!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة