د. الترابي واعظاً رياضياً وسياسياً!


" نعم إذا كانتُ مؤمن بالله، ألا يراقبني الله؟ لم أقف فى لعبي خلف المدافعين فالذي يدخل البيوت يدخلها من أبوابها، هكذا قال الله، هي منافسة مباشرة ومن خلالها تسجل هدفاً، تسجل أنت أو الآخر ليست لدي مشكلة. كنت ألعب بروح الجماعية وإذا هزمنا لا أغضب, كنت أرى المنافس كان الأفضل. لا بد أن يتعلم السياسي الروح الرياضية ففيها فوائد للسياسة والاقتصاد" .
أتجزئنا هذه فقرة التى من المؤكد أنها تضمنت سياقاً وعظياً من حوار ذي طابع اجتماعي تبسّطت فيه صحيفة اليوم التالي مع الدكتور الترابي زعيم المؤتمر الشعبي المعارض وحاول هو بطريقته التبسُّط مع الصحيفة والقراء.
الطابع الاجتماعي والشخصي للحوار وأشتات السيرة الذاتية والمواقف والذكريات الشخصية للدكتور الترابي -لسو ء الحظ- ومع بعدها ومحاولة إبعادها عن السياسة إلا أنها فى خاتمة المطاف سواء أراد الشيخ الثمانينيّ أم لم يرد، لخصت ببراعة ما يمكن أن نطلق عليه أزمته السياسية فى الماضي والحاضر.
أزمة رجل مع توفره على ذكاء وديناميكية قل نظيرها بين أنداده إلا أنه دلق عليها ما دلق من المتناقضات وشيء من الميكافللية والتي أفضت به فى حاضره الراهن الى مجرد (رمز سابق) .
الفقرة التى أوردناها فى صدر هذا المقال، خاصة برؤية الدكتور الترابي في لعب كرة القدم بعد أن أفصح – ربما للمرة الأولى – أنه كان أحد هواتها ومحبيها ومارسها مع أقرانه فى ميعة الصبا فى حنتوب.
ولكن الغريب أن ذات هذه الرؤية الرياضية التى خلص فيها الى ضرورة تحلي الساسة بقواعدها ومقتضياتها لم يحقق منها الدكتور الترابي -فى كل مشواره الطويل المربك والمرتبك- ولو نذراً يسيراً مهما قايسنا مواقفه وتصرفاته هذه بميزانه الخاص وتركنا الميزان العادل الصحيح .
فحين يقول الدكتور الترابي (لم أقف فى لعبي خلف المدافعين)، وهو ما يعد عادة من المخالفات فى كرة القدم، فإن الرجل على أية حال فعلها في ميدان السياسة لمرات عدداً، فالدكتور الترابي فشل فى نفيّ صلته (الوثيقة) بحركة العدل والمساواة والصلة القوية التى كانت تجمعه بالدكتور خليل حتى إن البعض -عبر المعلومات والتحليل- وصل الى حقيقة أن العدل والمساواة فى أدنى توصيف لها هي الجناح العسكري للمؤتمر الشعبي.
ولن تنمحي عن الذاكرة السياسية محاولات التمويه التى قام بها الدكتور الترابي قبل وأثناء هجوم الحركة على مدينة أم درمان عصر العاشر من مايو 2008 والرجل - بحكم سجل حافل موثق - بارع فى عمليات التمويه التى من المؤكد أنها لا تقل فى خطورتها ومجانبتها للخلق السياسي والرياضي عن عملية (الوقوف خلف المدافعين)!
الدكتور الترابي كان يمارس عمله السياسي السلمي (خلف المدافعين) هنا فى الخرطوم حين كان خليل يستعد لتمرير الكرة عبر فيافي أم درمان ورمالها الحارقة أملاً فى أن تستقر فى ملعبه هنا لتلج الشباك وتستقر فيها.
ولعل من سخريات القدر أن الدكتور الترابي تحدث عن مراقبة الله له -فى حديثه عن الكرة والرياضة- فى الوقت الذى فيه تكفّلت مراقبة الله بإحباط هدف مباراة أم درمان الشهيرة تلك ليرتد د. خليل على عقبيه، ويمضي الترابي الذي كان يقف خلف المدافعين الى المعتقل.
وفى جانب آخر من موعظته الرياضية فى الحوار الشيق يقول الدكتور الترابي (كنت ألعب بروح الجماعة وإذا هزمنا لا أغضب، كما أرى المنافس الأفضل)!.. لعلنا لا نغالي إن قلنا إن هذه (الحكمة) العجيبة التى أجراها الله على لسان الترابي هي التى خرقها الدكتور الجليل خرقاً لا حاجة معه الى دليل، ومن المؤكد أن أحداً لن يجادل على الإطلاق، أن خروج الترابي من الحكومة وإنشاؤه لحزب معارض كان تعبيراً عن رفضه لروح الجماعة!
ولعل من اليسير للغاية أن تسال أيٍّ ممن اقتربوا من الرجل ماضياً وحاضراً أن يقول لك أول ما يقول إن الترابي شديد الضيق بالرأي الآخر شديد الاعتداد برأيه وقراره ويصل به الأمر ليس فقط لرفض آراء الآخرين وإنما الى حد الهزء والسخرية منها على الملأ، وبعبارات قاسية تصحبها ضحكته الساخرة المعروفة.
وقد وثق التاريخ المعاصر للحركة الإسلامية -سواء لدى الموالين أو المخاصمين للشيخ الترابي- أنه غضب من ما عُرفت بمذكرة العشرة، وهو الغضب الذى حدا به لمعاقبة كل من اشترك فيها أو وقّع عليها ليفضي كل ذلك الى غضبة مضرية أخرجته من الملعب تماماً.
لو افترضنا -فقط جدلاً- أن المذكرة الشهيرة المطالبة بالإصلاح أو الحد من سلطات الأمين العام – كانت بمثابة هزيمة للشيخ، فأين هي روحه الرياضية التى وعظ بها صحيفة اليوم التالي وقال إنه لا يغضب حال الهزيمة؟ وليت الدكتور وقف فقط فى النقطة هذه؛ أي انه لا يغضب جراء الهزيمة ولكن زاد أنه يرى المنافس هو الأفضل؛ وتلك لعمري قمة تجليات أدلة الإدانة ضد الرجل الذى ما فتئ يسعى وبكل ما أوتي لإسقاط الحكومة القائمة دون أن يتذكر مبدأه الرياضي الذى قاله به (أنه يرى أن المنافس هو الأفضل)!
الرجل تردد ثم خاض ثم تردد فى السباق الانتخابي الذى أجري فى العام 2010 وحين دوّت صفارات الهزيمة فى الفضاء، الرجل لم يقبل بالهزيمة ولم يرَ أن المنافس هو الأفضل! لقد تقاسم من ذلك اليوم مع حلفائه فى الأحزاب السياسية والقوى المسلحة مهمة القضاء على الخصم المنتصر فى الانتخابات العامة بأي وسيلة من الوسائل.
لقد كان من الممكن أن نتقبل (غضبة) الترابي من الهزيمة (كأمر بشري مألوف) لو أنه منذ ساعة الهزيمة تلك، جلس ليعدد أسباب الهزيمة ويسد ثغراتها ويعمل على إعادة تهيئة فريقه للمباراة القادمة.
كان من الممكن أن يكون ذلك مقبولاً، ولكن الدكتور الترابي خاصم خصمه المنتصر وسعى – عبر تحالف مع حملة السلاح – لإلحاق الهزيمة بالخصم!
الحوار الذى ما نزال نصفه بأنه كان (شيقاً) بحكم تسليطه الضوء على بعض (مخابئ) و(مكامن) المناطق المظلمة فى الرجل المثير للجدل حوى الكثير مما خصم المتبقي القليل من رصيده، وكاد الدكتور أن يثبت –رغم خلفيته القانونية– أن ما جرى له فى كندا من قبل لاعب الكاراتيه الشهير هاشم بدر الدين أحدثَ بالفعل أثراً ترجم الدكتور جزءاً منه في حواره هذا، فالرجل وإن لم يفقد النطق إلا أنه فقد المنطق!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة