خطاب البشير.. رسائل في جهات مختلفة

بقلم: د. سامية علي 

خطاب الرئيس البشير الأخير الذي وصفه البعض بأنه لم يأت بجدية.. فإن من يتفحصه جيداً يدرك أنه امتداد لخطابه الأول الذي كان في نهاية يناير الماضي، فالأول كان مخاطباً القوي السياسية مركزاً علي الانفتاح السياسي ومشاركة الآخرين في العمل السياسي عبر حوار وآلية تتفق عليها القوي السياسية، أما الخطاب الأخير فجاء مخاطباً الجهاز التنفيذي عبر مجلس الوزراء موجهاً بإنزال تلك الموجهات خلال خمسة محاور للإصلاح في مجالات الاقتصاد والاجتماع والعلاقات الخارجية والإعلام بجانب العمل السياسي والعدلي.

 وأهم ما ميز هذا الخطاب أنه وجه بتكوين لجنة عليا لتنفيذ ما ورد في الخطاب ليكون واقعاً يمشي بين الناس، ووجه بوضع مصفوفة زمنية لبرامج الإصلاح بالجهاز التنفيذي، حتي لا يوسف بأنه مجرد حديث بتناثر في هواء الاستهلاك السياسي ثم يتبخر، وما يشير إلي أن التوجيهات تتنزل الي واقع التنفيذ ذلك التشديد علي المتابعة عبر لجان فرعية تنعقد أسبوعياً ثم نصف شهري وترفع تقاريرها الي اللجنة العليا التي ينبغي أن ترفع مخرجات التنفيذ الي مجلس الوزراء للتقييم والتقويم.

 إذن فإن الخطابين لا تقاطع بينهما وكل مكمل للآخر، فالأول الذي خاطب القوي السياسية لإشراكها في الهم الوطني عبر حوار شامل يلامس ويناقش القضايا الوطنية والعبور بها الي برا آمن، فإن موجهات خطاب الرئيس للجهاز التنفيذي بالحكومة أن يلتقط القفاز ويشرع فوراً في تنفيذ إصلاحات في المجالات الاقتصادية والسياسية والخدمة العامة وإعلاء مبدأ المحاسبة ومكافحة الفساد وبسط العدل بين المركز والولايات ومراجعة ترتيب الأولويات في الإنفاق الحكومي وتعزيز التعاون الدولي.

 وهذه أهم القضايا التي تسبب كثيراً من الأزمات التي تواجه البلاد وتعيقها من الانطلاق، فإن عمل الجهاز التنفيذي علي معالجتها بحسب التوقيتات التي حددتها موجهات الرئيس البشير فإنها قطعاً ستعين علي تنفيذ موجهات الخطاب الأول التي من أبرزها الاتفاق علي أجندة وآلية للحوار بين الحكومة والقوي السياسية، وحينما يمضي الجهاز التنفيذي في مطلوبات الخطاب فإنه يكون قد قطع شوطاً بعيداً في مطلوبات تهيئة المناخ للحوار الذي تطالب به كثير من الأحزاب وتضعه عائقاً لموافقتها الجلوس للحوار، علي الرغم من أن تلك الأحزاب ستضطر أن تأتي للحوار لأنها ستجد نفسها في محيط معزول لأن جل الأحزاب ستنضم الي مائدة الحوار وقد بدأت ملامح ذلك واضحة، فأحزاب كالأمة والشعبي وأكثر من (50) حزباً وحركة موقعة علي السلام قد جلست بالفعل مع الحكومة وحدثت بينها تفاهمات توطئة للجلوس لحوار شامل.

 فمن المتوقع أن تعمل لجان خطة إصلاح الحكومة التي أعلنها البشير في خطابه الأخير علي متابعة وحث الجهاز التنفيذي علي توجيهات البشير للإصلاح، فإن تم ذلك فقد تكون كثير من القضايا والأزمات قد بدأت في التلاشي في جانب الأزمة الاقتصادية والتي آثرت رئاسة الجمهورية أن تبدأ الحكومة بنفسها ذلك حينما وجه البشير في خطابه بتقليل الإنفاق الحكومي وإلزام الجهاز التنفيذي بسياسة التقشف واستبدال السيارات الحكومية (الفخيمة) المستوردة بسيارات جياد (السودانية)، وهذا يحقق غرضين الأول تقليل الإنفاق الحكومي وتوفير عملات حرة كانت تصرف في استيراد سيارات عالية التكلفة، والغرض الآخر هو تشجيع صناعاتنا المحلية وتطويرها أكثر.

 والإصلاحات الاقتصادية التي ستتم عبر حزمة من المراجعات بحسب موجهات خطاب البشير فأنها ستحدث كثيراً من التحولات والمتغيرات المهمة التي ستنعكس إيجابياً علي الاستقرار الاقتصادي وتحلحل كثيراً  من الأزمات الاقتصادية، بالتالي فإن الحكومة ستكون قد أغلقت الباب أمام المطالبات بمعالجة الأزمة الاقتصادية كواحدة من (الذرائع) التي تشعها بعض الأحزاب السياسية كشرط للجلوس للحوار.

 وموجهات خطاب البشير لم تغفل محاربة الفساد وإعلاء مبدأ المحاسبة ونبذ القبلية والجهوية، فهذه القضايا تساعد علي الاستقرار السياسي طالما أن الحكومة تسعي الي محاربة أمراض استشرت بين الناس (أسمها الانتماء القبلي والجهوي) الذي لم ينل منه السودان إلا التمزق والتشرذم والصراعات التي كادت تفتت إقليم دارفور قطعاًَ متناثرة، فحينما تنقل الحكومة الناس من مربع الصراع القبلي الي ساحة التوحد فإن ذلك قطعاً سيجعل الكل يتجه الي نبذ التحارب والاقتتال، وبالأخص في مناطق النزاع، بذا ستكون الحكومة قد قطعت الطريق أمام الذين يضعون إيقاف الحرب شرطاً للتحاور.

 خطاب البشير ركز علي أيضاً الجانب الدبلوماسي وإعداد كتاب أبيض لتطوير العلاقات الخارجية ومع دول الجوار علي وجه الخصوص والدول العربية والصديقة التي تربطنا بهم علاقات اقتصادية، وهذا في حد ذاته يعزز ويشجع الاستثمار الخارجي الذي بالطبع سيصب في دعم الاقتصاد القومي، فضلاً عن أن تطوير العلاقات الخارجية يجعل السودان الأكثر انفتاحاً علي العالم العربي والإقليمي والدولي، ويأمن بذلك أي عداء أو استهداف خارجي، وهذا سيجعل من يصطادون في مياه العلاقات الخارجية التي أصابتها بعض (الكعورة) تجاه بعض الدول تصيبهم خيبات أمل كبيرة، فهؤلاء يريدون أن يكون السودان معزولاً دولياً وإقليمياً لذا فإنهم ظلوا يطرقون علي هذا الملف بقوة ليعتبرونه شرطاً مهماً لنجاح الحوار الوطني.

 إذن فإن موجهات خطاب البشير إذا نزلت إلي ارض التنفيذ عبر لجان المتابعة وخطط التقييم والتقويم فإنها ستهئ لحوار وطني شامل لن يستطيع أن ينكره (أعتي) المكابرين ولن يستطيع أحد أن يشكك في نوايا وجدية الحكومة التي طفق البعض يوصمها بعدم الجدية والمراوغة وأنها تريد أن تشغل الناس بمحاصصات القوي السياسية بدعوتها الي حوار يرون أن الحكومة لم توفر له مقومات النجاح، بينما هؤلاء غضوا الطرف عن المماحكات التي يبديها قادة بعض الأحزاب وهم يضعون كثيراً من المتاريس أمام سير سفينة الإجماع الوطني.

 ولكن فيما يبدو أن هؤلاء سيواجهون بخيارين إما الانضمام الي سفينة الإجماع الوطني التي ستعبر بالسودان الي بر الأمن والسلام والنهضة أو أنهم سيجدون أنفسهم في معزل وسيجتاحهم الطوفان.. هي رسالة يجب أن يفهمها هؤلاء!!.


نقلا عن صحيفة الرأي العام  26/3/2014م


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة