لو لم يبادر المؤتمر الوطني -إتفقنا معه أو اختلفنا- لطرح مبادرة
الحوار الوطني وإضاءة الملعب السياسي السوداني ولو ببصيص ضياء؛ لما تحرك
ساكن القوى السياسية المعارضة التى قضت عقوداً وهي تجلس فى ذات المقعد
بذات الطريقة فى انتظار ما تجود به الأقدار!
ومهما كانت التقديرات الآن
بشأن مدى جدية الوطني فى الحوار وفتح كوة واسعة ينفذ منها كامل الضوء، فإن
القوى المعارضة وفق واقعها المزري الذى كانت عليه يجب أن تقرّ أنها لم
تحقق انجازاً قط فى هذا المضمار بل ظلت -وربما لا تزال- غارقة فى محيط هادر
من الخلافات البينية المتواصلة فيما بينها، وهي خلافات بلغت طرافتها
مبلغاً جعل هذه القوى تنقسم حيال مبادرة الوطني ما بين متقبل لها وآخر رافض
لها.
وعلى ذلك فإن ارتفاع سقف بعض القوى المعارضة وعلى نحو مفاجئ
-وفيما يشبه الحبال بلا بقر- لدى مطالبتهم منذ هذه اللحظة بحل الحكومة
القائمة والإعلان عن وضع انتقالي فيه شطط يثير المخاوف بشأن مستقبل هذه
القوى التى كل ما تصبو إليه الآن هو هدم القديم القائم بكامله لتحل محله
بسرعة!
إن كان من مهدد يتهدد حراك الحوار الوطني الجاري الآن فهو بغير
شك هذه العجلة غير المبررة التى تختزل الأمور كلها فى إسقاط السلطة القائمة
-وكأنها انجاز سياسي خالص للقوى المعارضة- والحلول محلها بصرف النظر بعد
ذلك عن حل القضايا الكبرى والمهمة التى يعاني منها السودان.
هنالك بعض
آخر من بين هذه القوى كحركة الإصلاح الآن التى يقودها الدكتور غازي صلاح
الدين تحرض بألاّ تنتظر قوى المعارضة ما يمنحه لها الوطني -حسبت تعبيرها-
وإنما عليها أن تنتزع حقوقها وأن تنشط، بعيداً عن الوطني فى وضع أجندة
الحوار حتى ولو تخلف عنه الوطني!
ربما كان حرياً بنا أن نجد العذر لهذه
القوى وكونها فوجئت (برزق سياسي) لم تسع إليه، أتاها رغداً من كل مكان؛
ولكن بالمقابل فإن محاولة قوى المعارضة جرّ العربة وتحريكها بغير المفتاح
الحقيقيّ لها من شأنه إفساد المناخ الحالي المواتي. فمن جهة أولى، فإن
أحداً لا ينسى ولن ينسى الممارسة المخجلة للقوى الحزبية فى عهدين سابقين،
انشغلت فيهما بخلافاتها وتشاكساتها وتكالبها على السلطة غير عابئة بما كان
يعاني منه الوطن المثخن بالجراح.
لقد بدا واضحاً أن ذات تلك القوى
الغابرة ما تزال موجودة بذات تلك الممارسة وتلك الذهنية القاصرة، وإذا كان
هذا هو منتهي ما قد يفضي إليه الحراك الحالي فإن من المؤكد أن شعب السودان
زاهد فيه، فقد خبره وجرّبه ولا يريد المزيد.
ومن جهة ثانية فإن الشعور
-مجرد الشعور- أن الحريات العامة والممارسة الديمقراطية لا ضوابط لها -وهذا
للأسف الشديد منتهى فهم هذه القوى السياسية للحرية والديمقراطية- فإن
الساحة السياسية المنتظرة لن تكون استثناء على سابقاتها الأمر الذي يعيدنا
الى قصة (آل بوربون) التاريخية الشهيرة، الذين لا ينسون شيئاً ولا يتعلمون
شيئاً!
ومن جهة ثالثة فإن اختزال الحوار الوطني -بكل فعالياته- فقط في
فكرة حكومة انتقالية ثم انتخابات عامة وبعدها يصبح كل شيء على ما يرام،
إنما هو اختزال مجحف لقضية السودان الذي ينتظره الكثير جداً ليحققه قبل أن
تصبح الممارسة الديمقراطية -بمفهوم قوانا السياسية هذا- متاحة وممكنة.
مجمل
القول إن التركيز على وضع إطار وطني جامع وعهد سوداني متين بعيداً عن
المزايدات السياسية والمنافسة الحارقة هو أولوية هذه المرحلة والمرحلة
المقبلة وإلا سقط البناء قبل أن يبلغ شبراً!
تعليقات
إرسال تعليق