لا شك أن تجربة ملتقى أم جرس الأخيرة والتى -وربما لأول مرة منذ اندلاع
أزمة دارفور- يتوفر كل هذا القدر من القادة الأطراف، رسميين وشعبيين ورجال
إدارة أهلية وأعيان وساسة وناشطين ليعكفوا على دراسة الازمة دراسية علمية
حقيقية ويتلمّسوا لها الحلول من مظانها الصحيحة؛ لا شك انها التجربة
الأجدر بالاحتذاء فى تاريخ النزاعات السودانية، فلو أن كل نزاع في أي منطقة
من مناطق السودان توفرت له هذه العناصر المهمة للحل لما كان حال السودان
الماثل مؤسفاً لهذه الدرجة.
وإذا جاز لنا تعداد مزايا ملتقى أم جرس
-كخطوة متقدمة للغاية وربما غير مسبوقة- فإن بإمكاننا ان نحلظ: أولاً، توفر
الشعور العام لدى الكافة بدرجة ومقدار واحد بأن الوقت قد حان للتباحث
الجدّي والعملي في هذه المعضلة التى يتضرر منها الجميع؛ فقد طالت الأضرار
اهل دارفور بكافة طوائفهم، وطال البنى التحتية، وطالت حتى الحركات المسلحة
نفسها التى أصبحت تسرق من كل مكان لتواجه مقتضيات أنشطتها، وهذا بدوره جعل
منها حركات ذات طابع ارتزاقي بقدر يصعب تصوره وهو أمر ليس من شيم
السودانيين عامة وأهل دارفور بصفة خاصة، فالرجولة السودانية منذ عُرفت،
مجالها فقط الدفاع الشريف عن أرض السودان، وليس العمل لصالح الغير بأجر
وباستخدام السلاح، ولهذا فإن شعور الجميع بأن الأزمة طالت الجميع أدى لهذا
التنادي والاستنفار الرسمي والاهلي، حيث يحاول الكل إطفاء الحريق ولو
بقاروة صغيرة.
ثانياً، استجابة قادة الاحزاب السودانية المعارضة
للمشاركة فى الملتقى فيه اشارة مهمة لا تخطئها العين الى ان قادة القوى
السياسية -حتى وهم ما يزالون فى المعارضة- يدركون ان أزمة دارفور لن تتيح
لهم فى المستقبل القريب العمل فى المضمار السياسي بقدر من المهارة والأداء
الجيد، فهي أزمة مقلقة وخطيرة، بل لا نبالغ إن قلنا ان قادة احزاب المعارضة
باتوا يتوجسون من أن يتسبب تطاول أمد الازمة فى دارفور الى إعاقة وعرقلة
الحوار الوطني وعرقلة مسيرة الحوار الوطني التى بدأت للتو؛ لهذا فإن كانوا
حريصين على تهيئة مناخ ملائم لهذا الحوار وتنظيف الساحة من شوائبها فإن
عليهم المساهمة بفاعلية فى إطفاء الحريق لأن ألسنة اللهب وخيوط الدخان
المتصاعدة لا تسمح لهم بالرؤية الجيدة وتحجب عنهم الكثير.
لهذا رأينا
حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الترابي ورأنيا حزب الامة القومي برئاسة نائب
رئيس الحزب فضل الهم برمة ورأينا قادة الصف الاول من مختلف الاحزاب ومنظمات
المجتمع المدني يتقدمون حضور الملتقى.
الأمر الثالث أن الملتقى -فى حد
ذاته- بدا كتمرين سياسي ابتدائي لمضمار الحوار المنتطر، فهو يوفر إدارة
سياسية وأهلية جدية للأزمة، ويكشف عن مساهمة كل حزب أو جماعة، ويجيب عن
أسئلة ضرورية ظلت حاضرة فى ذهن قادة القوى السياسية المعارضة والتى تتصل
بما إذا كان المؤتمر الوطني جاد في حل كل أزمات البلاد؟ وما إذا كان جاداً
فى وضع يده على موطن الداء وكيف ينظر الى القوى الأخرى؟ هي مناسبة لكي يفهم
الكل طريقة إدارة الحوار وما يمكن ان يفضي اليه.
بقى أن نلاحظ في
خاتمة هذه الملاحظات ان بعض الحركات المسلحة التى تغيبت عن حضور الملتقى
ضيّعت على نفسها افضل سانحة لاختبار الأوضاع السياسية المستجدة في السودان
وأعطت انطباع سالب عن رؤاها ومواقفها إذ لم يكن يضيرها شيء لو أنها حضرت
وجلست واستمعت، فقد كان متاحاً لها أن تلزم الصمت وأن ترقب ما يقوله
الحاضرون إذ من المؤكد أن هذا كان كفيلاً بأن يمنحها رؤية سياسية حقيقية
وواقعية تخرجها من مأزقها المتطاول هذا!
تعليقات
إرسال تعليق