بقلم: فتحية موسي السيد
تعيش دارفور مرحلة تاريخية مليئة بالأحداث الخطيرة، دارفور تلك البقعة
العظيمة من السودان والتي يوماً ما كانت تصنع كسوة الكعبة المشرفة وترسلها
من أقاصي غرب السودان إلى مكة المكرمة بيت الله الحرام، وهي مصنوعة من أغلى
أنواع القماش السوداني الأصيل ومزينة بأجمل وأروع ما صنعته أيادي
السودانيين في ذلك التاريخ، دارفور عانت كثيراً في الآونة الأخيرة من ويلات
الاحتراب والاقتتال ما حدا بسوء الأوضاع الإدارية والأمنية معاً، وقد
تسابقت القبائل في تجميع شتاتها استعداداً للمناطحة في الحق على الأرض
والمكتسبات السياسية وحماية ذاتها من الأخطار، وقد انتظمت هذه القبائل في
مؤسسات عرقية بتشجيع السلطة وإشرافها، فأسست أماناتها المتخصصة وهيئاتها
الاستشارية وتنظيماتها التي أوجدت لها التمويل واستقطبت لها الاشتراكات،
وإلى جوارها مضت الدولة في تقليص دور المؤسسات المدنية وتشريد كفاءاتها
عندما اندلعت المعارك في فبراير 2003م استخدمت كلمة التمرد لأول مرة،
وعندها عرف كل السودانيين أن ما يجري في ولايات دارفور أنه تمرد، وليس
نهباً مسلحاً ولا مجموعة قُطاع طرق، كما كانت تزعم الحكومة، ونسبة لتجاهل
الأخيرة في المركز، أن ما يجري في هذه المنطقة ـ رغم النداءات المستمرة
والملحة التي شهد عليها الجميع باختلاف توجهاتهم ـ انكشف أنه تمرد مسلح على
النظام الحاكم، ووفقاً للمعطيات الراهنة بالشأن الدارفوري اتضحت جلياً ـ
من خلال النقاش المستفيض ـ نتيجة مفادها أن المشكلة في دارفور تنموية،
ودارفور تحتاج إلى حل آخر غير المؤتمرات التقليدية السابقة، ولا بد أن نتفق
على أن للقضية روافد في الصراع على الكلا والماء والصراع القبلي، وهذه
أشياء موجودة في المنطقة منذ زمن طويل وأن البيئة التنموية إذا كانت جيدة
لأصبحت هذه الروافد مشكلات فرعية يسهل حلها ودياً، لكن صورة البيئة في
دارفور كانت متدنية ومتأخرة، جعلت القابلية للانفجار كبيرة إذا ما وجدت
الأجواء المهيئة لذلك، وللأسف كل عوامل الانفجار في دارفور كانت مواتية
وتتغذى دائماً من أخطاء الحُكام والولاة سيما في ظل تفاقم الأزمة، حيث رسم
سياسيون وأكاديميون صورة قاتمة للأوضاع الأمنية بدارفور، القضية قومية ويجب
أن تحل في الإطار القومي ومطالبة الحكومة والحركات وأهل دارفور دفع
استحقاقات السلام، خاصة أن الأوضاع ناتجة عن ضعف هيبة الدولة. ورأى بعض
الحادبين أن الحال في دارفور يستدعي إعلان حالة الطوارئ وسحب الولاة
المدنيين، وتكليف القوات المسلحة بإدارة الإقليم لحل أزمة دارفور المتجذرة
والتدخل الأجنبي، والنظر للقضية بعقلانية لأن قضية دارفور بدأت قبليّة
ولكنها سُيست، وهناك اتهام لبعض السياسيين بالداخل بعدم رغبتهم في حل
الأزمة، كما توجد أجندة وأذرع تساعد في تطوير القضية، ونجد سبب استمرارية
الصراع هو عدم وجود إستراتيجية للحل الشامل، خاصة أن القضية الآن انحرفت عن
مسارها الطبيعي، لكن ما يدعو للأسف هو ضيق أفق الحركات المتمردة،
واستهدافها للتنمية لا يسقط النظام البتة، ومنهجها لا يحقق لهم النصر كما
اعتقدوا. وفي تقديري أن ملتقى أم جرس فرصة أخيرة لإخماد نيران القتال في
دارفور إذا ابتعد عن العلاقات العامة وحتى لا يكون إهداراً للزمن لا بد من
ضم جميع الحركات المسلحة التي شكلت غياباً بالرغم من إعلان الموافقة
المبدئية في كمبالا للوسطاء، خاصة أن الحركات المتمردة ساهمت في إضعاف
الحكومة وإرهاقها وسيما في الاتفاقيات السابقة التي لم تسهم في وضع حل
للصراع في دارفور، فيما يتفق الجميع على أن ظهور قضية دارفور إلى واجهة
الأحداث كانت النتيجة الأبرز من تداعيات مفاصلة الإسلاميين، حيث أدى انفجار
أزمة دارفور بشكل واسع إلى حدوث كارثة إنسانية وانفلات أمني في المنطقة،
الشيء الذي قصد منه الرئيس البشير وبتلك القرارات قطع الطريق على د.
الترابي في أن يمضي قدما في التعديلات الدستورية التي كان يناقشها البرلمان
آنذاك والخاصة بتغيير كيفية انتخاب الوالي، وانتقالها من مجلس الولاية
بترشيح من رئيس الجمهورية إلى عامة الناخبين في الولاية، وتقليص الحريات
السياسية إذا ما أبدى أنصار الترابي أي معارضة لتلك القرارات، وبتعطيل مواد
الدستور المتعلقة بانتخاب الولاة، وكان في هذا الوقت الطيب «سيخة» والياً
على دارفور وهو جزء من الصراع الذي احتدم بينهم، ما حدا بالرئيس تغيير
الولاة الذين انحازوا إلى جانب د. الترابي، فالقرارات تعني في المقام الأول
مواجهة الترابي، واعتبر الرئيس أن تلك القرارات هي خروج على الدستور وعودة
إلى الإجراءات الاستثنائية التي اتسم بها الانقلاب العسكري قبل تاريخ
إجازة الدستور. وتبع ذلك اهتمام دولي كبير بالمشكلة وصل ذروته بتدخل
الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن الدولي الذي أصدر قرارات تدعو الحكومة إلى
إيقاف نشاط المليشيات وتسهيل عمليات الإغاثة للمتضررين والنازحين من سكان
دارفور، وبذلك تحولت أزمة دارفور من مشكلة قبلية محلية إلى مشكلة إقليمية
إفريقية ودولية تشكل بنداً ثابتاً في جدول أعمال الاتحاد الإفريقي ومجلس
الأمن الدولي منذ يوليو 2004م وحتى الآن وفي الداخل أثارت الأزمة اهتمام كل
القوى السياسية والاجتماعية بحكم تأثيرها الحاسم في مجرى الصراع السياسي
الجاري في البلاد، وفي أوضاعها السياسية وعلاقاتها الخارجية أيضاً، وانعكس
ذلك في تراجع الاهتمام المحلي والخارجي بعملية السلام الجارية، بل وأدى إلى
تعسر عملية تطبيق الاتفاقية، وانفجار أزمة دارفور نفسها كانت في بعض
جوانبها رد فعل عنيف على اختلالات اتفاقيات نيفاشا وتجاهلها للأقاليم
المهمشة والمستبعدة، وظل المؤتمر الوطني منذ المفاصلة يواجه مشكلة ترتيب
أوضاعه وعلاقاته لمواجهة المتغيرات الأساسية التي فرضتها عملية السلام
الجارية وتداعياتها في المسرح السياسي العام ويشمل ذلك استمرار سيطرتها على
مقدرات البلاد وخاصة سيطرتها الأمنية.
تعليقات
إرسال تعليق