ما من أحد كان بوسعه ان يتكهن -بما في ذلك كل صناع القرار في واشنطن- بما
ستفضي اليه وأفضت إليه بالفعل مراسيم الإدارة الأمريكية منذ العام 1997م
القاضية بفرض حظر اقتصادي على السودان.
من المؤكد أن الرئيس الديمقراطي
وقتها (بيل كلنتون) حين وضع توقيعه على أول مرسوم حظر اقتصادي أمريكي على
السودان (نوفمبر 1997) كان يدرك أنه يفعل ذلك في سياق ضغوطات اللوبي
المعروفة ولم يكن أبداً قراراً أمريكياً خالصاً يخدم سياسة الدولة العظمى.
الرئيس
كلنتون وضع توقعيه على مرسوم يقضي بحظر التعامل التجاري بشتى أنواعه -بما
في ذلك الأدوية المنقذة للحياة- مع السودان، في ذات الوقت الذي كانت بلاده
وما تزال تجيش الجيوش وتستصدر القرارات من مجلس الأمن، وترسل المساعدات
الإنسانية لمن ترى أنهم (ضحايا حروب ونزعات) و(ضحايا انتهاكات لحقوق
الإنسان)!
ومنذ ذلك الحين أصبح قرار إلحاق الأضرار بشعب السودان
وانتهاك حقوقه الطبيعية في الحياة، قراراً بيروقراطياً سنوياً، تتخذه
واشنطن وهي لا تلوي على شيء. هناك إحصاءات موثقة ودراسات دقيقة يمكن ان
تشيب لها الرؤوس لما فعلته العقوبات الامريكية في مدة 19 عاماً بشعب
السودان.
مات عشرات الآلاف بسبب الدواء، تعطلت مئات القاطرات الحديدية
بسبب قطع الغيار. توقفت آلاف المصانع بسبب قطع الغيار. تدهورت العديد من
المجالات الاقتصادية الحيوية فى السودان جراء هذه العقوبات.
بالمقابل
فإن أحداً لا يدري على وجه التحديد ما هي دواعي ودوافع هذه العقوبات. فإن
كان الامر يتعلق بالإرهاب فإن إدارة الرئيس بوش الابن طوقت جيد الحكومة
السودانية بشهادة رسمية لا يتطرق لها الشك ان السودان قدم ما في وسعه
وتعاون مع واشنطن تعاوناً فاعلاً لمكافحة الإرهاب.
إن كان الامر يتصل
بسياسات بعينها لا تحبذها واشنطن وتمارسها الحكومة السودانية فإن هناك مئات
الدول المتعارضة المصالح والسياسات ولكنها رغم ذلك لا تتعامل بمبدأ
العقوبات. إن كان الامر محض إضرار أو إذلال للسودان بسبب وغير سبب، فإن ما
تفعله واشنطن وما فعلته في 19 عاماً كافٍ لإشباع رغبتها السياسية غير
السوية هذه.
وعلى ذلك فإن التحرك الشعبي الواسع النطاق الذي يقوده شعب
السودان الآن متسلحاً بتصميمه وإرادته القوية لرفع عريضة تضم 100 ألف توقيع
للبيت الأبيض برفع العقوبات يمكن فهمها كوسيلة إستراتيجية فاعلة من المؤكد
أنها سوف تضع واشنطن في مأزق اخلاقي وسياسي غير مسبوق.
أولاً،
التوقيعات الجاري جمعها والتي جمعت بالفعل -وبغض النظر عن كمها وكيفها-
تأتي في (سياق ديمقراطي) هو نفسه السياق الذي نتعامل به الدولة العظمى مع
شعبها، فإما أن تثبت انها تكيل بذات المكيال الديمقراطي، وتحترم أقدار
الشعوب وإما أن تسقط في نظر نفسها ونظر شعبها ونظر العالم.
ثانياً،
التوقيعات تؤكد أن الضرر وقع بالفعل على شعب السودان وهو ليس عدواً سابقاً
أو حالياً أو محتملاً للولايات المتحدة بحال من الأحوال، وليس من مقتضيات
حسن التعامل بقيم حقوق الإنسان معاقبة شعب بأكمله دون أسباب واضحة.
ثالثاً
التوقيعات تضع واشنطن في الزاوية الحرجة الاكثر تناقضاً ومفارقة، فإما أن
تدرك أنها بعقوباتها غير المبررة هذه تنتهك حقوق شعب السودان، وإما أن تكف
عن ملاحقة الدول بملفات انتهاك حقوق الإنسان!
وأخيراً فإن مثابرة
السودانيين على وضع هذه المظلمة الدولية الفادحة امام صانع القرار
الأمريكي، هي الخطوة الإستراتيجية الأولى التي ينبغي على صانع القرار
الأمريكي أن يدرك ابعادها. فالشعوب ليست كالحكومات هامش مناورتها وتحركاتها
أكبر وأخطر.
تعليقات
إرسال تعليق