يستسهل الكثير من المحللين والمراقبين النظر والتحليل للطبيعة السياسية والثقافية والاجتماعية للسودان. وفى كثير من الاحيان يخلط هؤلاء خاصة مراقبي المحيط العربي و المهتمين بقضايا المنطقة الافريقية و العربية ما بين ظروف و معطيات دول المنطقة وظروف و معطيات و الطبيعة المتفردة للسودان وتركيبته الاجتماعية وطبيعة شعبه ومزاجه العام.
لا نغالي أبدا من خلال بحثنا وتعمقنا الذى يمتد لعقود طويلة فى البحث و التنقيب فى الشأن السوداني، لا نغالي ان قلنا ان هذا البلد وشعبه و ثقافته المدهشة لا تشبه ثقافة محيطه و جواره العربي و الافريقي.
لقد تميز هذ البلد ببعض الميزات التى جعلته مختلفاً، صحيح هو وبحسب موقعه الجغرافي جسر بين العالمين العربي والافريقي وصحيح هنا أيضا ان بنيته السياسية و الاجتماعية ما تزال فى حالة تبلور و يذخر بالعديد من المثالب و التعقيدات الصعبة؛ ولكن ومع ذك فان السودان مختلف. كيف ذلك؟:
أولاً سبق السودانيين العديد من دول المنطقة فى نيلهم استقلالهم و جلاء المستعمر منه -بما في ذلك جارته مصر نفسها- التى لم يتسن لها تحقيق الجلاء إلا بعد العام 1956 بعد ان كان آخر جندي انجليزي خرج من السودان فى الاول من يناير 1956م.
نيل الاستقلال وتحقيق الجلاء قاده السودان ضمن سياق نضال سلمي ذكي بحيث تم الاعلان الاستقلال كما هومعروف من منصة (تشريعية) البرلمان. وهو أمر تفرد به السودان دون سائر البلدان وهذا بدوره خلق له خصوصية سياسية وأعطاه تجربة سياسية مبكرة و قدرة على ادارة أموره بالطريقة السودانية.
ثانياً، انجز السودان فى عقود ثلاثة ما بين اكتوبر 1964 و ابريل 1985 انتفاضتين ثوريتين بطريقة سلمية ذكية قادها شعبه وطلائعه المثقفة فى ظل وجود انظمة شمولية قابضة فى المنطقة ولفت الانظار بحق الى عبقريته. وهذا ايضاً اكسبه خصوصية إنجاز الثورات و الانتفاضات على النحو الذي يميزه.
ثالثاً، عند انطلاق ما يعرف بثورات الربعي العربي - عام 2011- لم ينجرّ السودان قط لتلك الهوجة اذا صح التعبير، فقد كان قد فرغ للتو من انجاز عملية سلمية (نيفاشا 2005) وضعت حداً لحرب اهلية وأكمل فترة انتقالية و اعطى جنوبه حق تقرير مصيره.
السودان كان وقتها يعطي درساً خاصاً به انه قادر على حلحلة أزماته، و المحفاظة على دولته و تأمين اركان الدول السودانية و تحصينها من السقوط. وتتجلى عبقريته شعب السودان هنا في أنه بدا وكأنه يتنبأ بمآلات ما سوف تصل اليه مشاريع الربيع العربي الخاسرة التى اسقطت دول عديدة فى المنطقة وإنزلقت بها فى وادي سحيق من الدماء و الاشلاء و غياب سلطة الدولة.
رابعاً، فى الحراك الاخير -ديسمبر 2018م- فقد بدا واضحاً ان السودان يود تغييراً بحسابات وعبر جراحة (موضوعية) ماهرة لاستئصال نتوءات غير صالحة. وكان واضحاً ان الاحتجاجات الشعبية كانت في حدود التغيرات من اجل الاصلاح و ليس التغيير الاعمى المفضي الى سقوط وفوضى و انزلاق، وهي اشارة التقطتها الحكومة السودانية بذات القدر المقدر من الذكاء و شرعت فى المعالجة والحلول.
خامساً، قرارات الرئيس البشير -الجمعة 23 فبراير 2019م- كانت اجابة شافية أثلجت صدر الشعب، فقد تولى الرئيس نفسه حركة التغيير من اجل الاصلاح مع تمام المحافظة على الدولة السودانية و أمنها و أمانها، مع السعي للاصلاح و العبور نحو الافضل.
كان واضحاً ان رسالة ذكية ارسلها الشعب الى الحكومة السودانية ووصلت بالفعل وكان أهم ما فيها العض بالنواجذ على الدولة السودانية وأركانها وأعمدتها و عدم الدفع بها الى المجهول، مع اجراء التغيير وفق الهوى والمزاج السياسي السوداني المعروف.
لهذا كذب السودان كل توقعات الذين ترقبوا سقوط دولته و اللحاق بمشروع الربيع العربي الخاسر، فهو بلد أذكى من ان ينقاد وراء الآخرين، وهو يقود نفسه باستراتيجية خاصة قلما يستوعبها من يلهثون وراء أحداثه من خارج الحدود!
x
تعليقات
إرسال تعليق