أحاديث آبي أحمد، وحديث فوق السحاب مع كبر

أحاديث آبي أحمد، وحديث فوق السحاب مع كبر
لا تخلو المهام والزيارات والرحلات الرسمية  لكبار المسؤولين، من جوانب ذات طابع ومذاق خاص تُضفي عليها أبعاداً أخرى، تتقارب مع ظلالها وانعكاساتها  السياسية، وكثيراً ما تكون عيون الصحافة قريبة من حدثٍ ما، تنظر إليه من زواياه المختلفة، كما يُتاح لها جمع الكثير من المعلومات والاقتراب من بؤر التفكير الرسمي
ومراقبته عن كثب، كانت مرافقتُنا للدكتور عثمان محمد يوسف كبر نائب رئيس الجمهورية، الخميس، وهو في مهمة رسمية إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا لتقديم واجب العزاء، ونقل تعازي السودان رئيساً وشعباً  للقيادة الأثيوبية، وهو يحمل رسالة شفوية أيضاً من الرئيس، لرئيس الوزراء الأثيوبي، كانت فرصة ثمينة لاقتناء معلومات خاصة، وقراءة المشهد العام وتحسّس نبض العلاقة بين السودان وجارته الشرقية، ومعرفة نوع ومدى التفاعل الرأسي والأفقي في هموم الجانبين والاطلاع على قصة مدينتين، الخرطوم والزهرة الجديدة (أديس أبابا)..
(أحاديث فوق السحاب)..
 ما أن حلّقت بنا الطائرة صباح الخميس، والشمس تُرسل شعاعاتها الذهبية عبر النافذة في شروق صافٍ أطلّ على وجه الخرطوم التي تلاشت وراءنا، حتى انهمر الحديث بين السيد نائب الرئيس، د. عثمان كبر، والسفير جمال الشيخ نائب الأمين العام برئاسة الجمهورية، وكاتب هذه السطور في الهم الوطني العام، والحكومة الجديدة، وطبيعة الزيارة التي نتوجّه فيها لنقل تعازي السودان للجارة الإثيوبية في ضحايا حادثة الطائرة الأثيوبية.
 كان نائب الرئيس كعادته وطبيعته منفتحاً ومُلمّاً بالتفاصيل حول الشأن الداخلي وتجربة الانتقال الحالية للإنقاذ إلى أفق ومربع آخر، تحدثنا طويلاً على مدى ساعتين عن الحكومة الجديدة ومعايير وكيفية اختيارها، والمُرتجى منها والتحدّيات التي تواجهُها. والسيد نائب الرئيس بخبراته الطويلة في العمل الولائي ثم الرئاسي ودِربته في مجال العمل السياسي، ينظر إلى التجربة الراهنة ونقاط قوتها وفرص نجاحها بواقعية واعتراف بالصعوبات التي ستواجهُها، الرجل يمتلك كماً هائلاً من المعلومات، ويُجيد عقد المقارنات، خاصة الحديث عن العلاقات في مستويات الحُكم المختلفة، وكيف ستعبُر الحكومة وحكومات الولايات نحو الضفة الأخرى…
السفير جمال الشيخ، يتحدث بخبرة ومعلومات، ومتابعة للملفات المهمة في منطقة القرن الأفريقي وتطورّاتها، وما يُواجه هذه المنطقة من مشكلات نظراً للتعقيدات الكامنة في التراكيب السياسية للأنظمة الحاكمة، خاصة أن القرن الأفريقي هو الآن ميدان وساحة الصراع الدولي بين القوى الكبرى الطامعة، وبين  القوى الإقليمية الصاعدة. وللسفير جمال تجارب وخبرات مكّنته وأهلّته في إعطاء إفادات ومعلومات في نقاشنا، والطائرة تعبُر إلى الأجواء الأثيوبية التي بدت مُلبّدة بالغيوم كأنها تتّشِح بنقاب حزنها على ضحايا الطائرة الأثيوبية التي سقطت وتحطّمت بعد إقلاعها من مطار بولي بالعاصمة أديس أبابا، وبعد سِت دقائق تناثرت بركّابها على مسافة تبعد 45 كيلو متراً في الاتجاه الجنوبي الشرقي من المطار، وهي في رِحلتها الأخيرة إلى نيروبي.
(دمع في العيون جميلة)..
 قبل أن تهبط الطائرة تحدّث إلينا السفير جمال الشيخ عن أثيوبيا، وقد عمِل لعام ونصف تقريباً سفيراً للسودان لديها، وهو حديث العارف المتابع والدبلوماسي، العالِم المراقِب، عن ظروفها وأوضاعها السياسية ونهضتها الاقتصادية وظروفها الراهنة والتحوّلات الجارية فيها، كانت أديس ساعة انزلاق الطائرة في مدرج المطار لم تُكفكِف دموعها بعد، لم ينحسر حزنها، ولم تُغادر خدودها الناعمة ملامح  الفاجعة، رغم ذلك خفّ إلى استقبال نائب الرئيس بالمطار تحت سلّم الطائرة، السيد ديميك ميكونن نائب رئيس الوزراء، برفقته عدد من الوزراء الأثيوبيين وكبار المسؤولين، وسفير السودان د. الصادق بخيت الفكي، وطاقم السفارة، دار حديث في صالة كبار الزوار لبِضعِ دقائق، بعد أن عبّر كبر عن تعازيه وتعازي الرئيس البشير وحكومة السودان وشعبه، عن العلاقات الثنائية والزيارة الأخيرة لنائب رئيس الوزراء الأثيوبي للخرطوم، وقدم السيد ديميك تنويرًا سريعاً عن حادثة طائرة البوينج 737 ماكس، التي تحطّمت، وقال إن الخطوط الأثيوبية التي ربطت العالم ستتقدّم للأمام وستتجاوز آثار الحادث..
أقام نائب رئيس الوزراء الأثيوبي حفل غداء بفندق “حياة ريجنسي” لنائب الرئيس ووفده، جرت خلاله أحاديث رسمية عن تطوير الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، ودفع اللجان العليا المشتركة واللجان الوزارية إلى الأمام، وتطرّق الحديث لفرص تدعيم الصلات الشعبية، وبعث كل الروابط التاريخية والثقافية بين البلدين، وتقوية العلاقات البينية في الولايات والمناطق الحدودية، وحل كل المشكلات التي تنشأ..
 سفيرُنا في أديس، الدكتور الصادق بخيت، هو مثقّف كبير، لديه أسلوب ممتع وخاص في ربط العمل الدبلوماسي بمجالات المعرفة، خاصة أن لديه اهتمامات بالإنثربولوجي في علاقة الشعبين وتاريخ البلدين، وأصول القوميات والمنابت الثقافية، والتجلّيات الحضارية التي ربطت الهضبة الأثيوبية والحضارة النوبية ومجرى نهر النيل العظيم، وكان هناك حوار مُمتِع للغاية بينه ونائب الرئيس، ونائب رئيس الوزراء الأثيوبي ووكيلة وزارة الخارجية الأثيوبية في كل هذه المجالات..
(اللقاء مع آبي أحمد)
في الثالثة والنصف عصراً، استقبلنا أمام مدخل مكتبه الأنيق جداً والبسيط، رئيس الوزراء الأثيوبي (آبي أحمد)، كان لافتاً حيويته الدافقة في استقبالنا وارتياحه وفرحته الغامِرة بحضور وفد رفيع لزيارته وتقديم العزاء…
فور جلوسنا في صالون الاستقبال المُلحَق بالمكتب وكل مكوناته من اللون الأبيض، المقاعد والستائر والجدران والطاولات، تحدّث مباشرة عن ترحابه العميق وتقديره العالي لقدوم وفد من السودان يقوده نائب رئيس الجمهورية، لتقديم التعازي، وقال: لا أرحّب بكم في بلدكم الثاني، فأنا أيضاً السودان هو بلدي الثاني.. وقال (ليس غريباً عنكم هذا الصنيع، ولا أتوقّع من السودان إلا هذه المشاعر، وهذه المواقف التي تشبه السودان وشعبه)..
من جانبه، تحدّث نائب الرئيس كبر ناقلاً إليه تعازي الرئيس عمر البشير، وتعازي الشعب السوداني في ضحايا حادثة الطائرة الأثيوبية، ووصف حزن الأثيوبيين بأنه حزن السودانيين جميعاً، وألمهم هو ألم كل أهل السودان، وبعدها تطرّق كبر لقضايا العلاقات الثنائية، ونقل له رسالة شفوية من الرئيس حول سير العلاقات بين البلدين، والقضايا التي تهُم الجانبين، وحرص السودان على هذه العلاقات والتنسيق والعمل معاً من أجل المنافع والمصالح المشتركة التي تهم الشعبين الشقيقين..
 رئيس الوزراء الأثيوبي، الذي كان يستمع باهتمام بالغ وظهرت ملامح الارتياح على وجهه.. تحدث إلى نائب الرئيس والوفد بمشاعر قوية وصادقة نابعة من قلبه دون أي استخدام للغة الدبلوماسية، أو المجاملات الباردة، كان دافئاً جداً في عاطفته، قال:
“أرجو أن تنقل للرئيس البشير، وكل الشعب السوداني، أننا لسنا جيراناً أو أصدقاءً، نحن رابطة واحدة، وتوجد بيننا دماء واحدة، والسودان لا ننظر إليه مجرد جارٍ، هو البلد الذي قدّم لنا الكثير، ويوجد ملايين الأثيوبيين يعيشون في السودان بلا مضايقات أو أي شيء آخر، ولا تحس بهم إلا وهم في بلدهم،  هذه هي طبيعة وخصال الشعب السوداني مؤازرته لنا في الظروف والمِحَن التي مرّت بنا، وأنا أشعر أن الرئيس البشير هو أخي الأكبر، بل أكنّ له احتراماً كبيراً وهو في مكانة والدي، استفدتُ منه ومن تجربته وخبرته، وأنا معه في كل المواقف والظروف، ومستعد للعمل معه، وأنا وهو نتشاور باستمرار، وبيننا اتصالات مكثفة وثقة عالية جداً، وأقول لكم في هذه الظروف، نحن نؤمن أن السودان هو ركيزة الاستقرار في المنطقة، لو تأثر السودان أو حدثت فيه أي توتّرات ستُصيبنا نحن، ونتأثر بها، يستطيع السودان تحت قيادة الرئيس البشير عبور المرحلة الراهنة، ونحن نعمل على الاستقرار في المنطقة، وهناك ترتيبات جارية على مستوى دول الإقليم لتعزيز التعاون المشترك، وحل جميع الخلافات وإزالتها تماماً لمصلحة شعوبنا، والسودان هو المحور الأهم في الإقليم والقارة..”
 تناوَل رئيس الوزراء الأثيوبي قضايا كثيرة تتعلّق بالمنطقة والسودان والآفاق المفتوحة لتطوير التعاون الثنائي في مختلف المجالات مؤمّنا على استمرار أعمال اللجان العليا والوزارية المشتركة..
 عقب اللقاء، عقد انتهاء المقابلة بكاتب هذه السطور كرئيس لاتحاد الصحفيين السودانيين ورئيس الفيدرالية الأفريقية للصحفيين، مثمناً دور الإعلام والصحافة في البلدين والقارة الأفريقية، وقال: ستسمعون قريباً أخباراً سارة في منطقتنا وإقليمنا.. ووعد بلقاء مع الوفود الصحفية والعالمية السودانية والأفريقية..
 ثم خرج معنا إلى خارج المكتب، وودّع الوفد عند مخرج الخروج بأسلوب وطريقة حميمة للغاية ولسانه لا ينقطع عن شكر السودان وأهله.
x

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة