الاتفاق مع القوى المسلحة تكتيكياً.. أسلوب من العصور الوسطى!

الفارق شاسع ما بين اللعب السياسي المضبوط بقواعد وتقاليد راسخة فى ملعب فسيح يتسع للجميع مهما بدا ظاهرياً غير ذلك؛ وما بين تكتيكات غير محكومة بقواعد، والماسّة -للأسف الشديد- بصميم الامن القومي للبلاد. 
ففي إطار اللعبة السياسية يمكن اجراء تحالفات سياسية وتوسيع أو تقليص نطاق البرامج واكسابها مرونة، كما يمكن ايضاً عقد تحالفات استراتجية وتكتيكات فى داخل الاطار الوطني، وبقدر ما تسمح به الظروف السياسي للبلاد، مع تقدير سياسي خاص للمعطيات والمطالب الوطنية المطروحة.
وعلى ذلك فإن من الصعب اعتبار التحالف مع قوى مسلحة حتى ولو كان ذلك لأغراض سلمية تحالفاً سياسياً بريئاً ومشروعاً. ففي القوانين الوطنية البسيطة فإن مساعدة من يرتكب جريمة أو إيواءه أو الاتفاق معه او التستر عليه يعتبر مساعدة فى حد ذاته فإن لم يكن لشيء فعلى الاقل لأن مرتكب الجرم يستشعر (قوة اضافية) أو تحريضاً ودفعاً معنوياً ليمضي فى ذات طريقه الضار بأمن الجميع. 
ولهذا فإن كان هناك من حق لأي جهة للتفاوض مع حملة السلاح في أي بلد وفقاً لما هو متعارف عليه فى كل بلاد الدنيا - فهذه الجهة هي على سبيل الحصر السلطة الحاكمة باعتبارها الاقدر على الوصول الى حل مناسب والقدرة على تنفيذ فحوى الاتفاق وإدارة العملية كلها من واقع تفويضها السياسي الممنوح لها حتى ولو كانت سلطة أمر واقع!
وهذا الأمر مقرر في كل الشرائع الانسانية المعروفة وجرى ترسيخه منذ عقود فى القوانين الدولية تفادياً لأي إزدواجية ومنعاً لأيّ تعقيدات قد تقع بفعل قيام طرف سياسي غير مفوض بعقد اتفاقات مع مجموعات تحمل السلاح. ولعل مما يؤسف له فى هذا الصدد أن العديد من القوى السياسية السودانية في السنوات الاخيرة باتت تسلك هذا المسلك الخطير في اطار صراعها السياسي مع السلطة الحاكمة وليست وثيقة الفجر الجديد الشهيرة -قبل عامين- ببعيدة عن الأذهان. تلك الوثيقة التى جمعت ما بين قوى سياسية داخلية وحركة مسلحة تقاتل السلطة الحاكمة. 
والآن وقبل أيام قلائل أعاد حزب الامة القومي بزعامة السيد الصادق ذات هذه اللعبة -غير البريئة- الى الواجهة حين عقد اتفاقاً سياسياً سُمِّيَ بإعلان باريس مع الجبهة الثورية! المتأمل للإتفاق الاخير شأنه شأن الاتفاقات التى سبقته يلحظ أموراً عدة..
أولاً: عادة ما يكون الاتفاق من أوله الى آخره بمثابة لعبة وعملية عبثية غير جادة على الاطلاق إذ كيف يوقع طرفان -كلاهما معارض- إتفاقاً يتضمن وفقاً للعدائيات؟ في ظل غياب الطرف الرئيسي المعني بوقف العدائيات والذي هو طرف الخصومة السياسية؛ أوليسَ هذا عبثاً لا طائل من ورائه؟
ثانياً: مثل هذه الاتفاقات عادة ما يكون المقصد منها إغاظة السلطة الحاكمة لا أكثر ولا قل، فالطرفين يبحثان عن (ما يكدر) صفو السلطة الحاكمة ويضعانه بعناية فى صلب الاتفاق، وهو بهذه الصفة لن يكون إتفاقاً سياسياً بقدر ما هو (مكايدة سياسية) لا غير!
ثالثاً: لم يحدث قط من قبل فى كل الاتفاقات السابقة المماثلة ان قام طرفيها بالسعي لتنفيذها؛ كل ما يهم طرفيها هو رد فعل السلطة الحاكمة والتلذذ بغضبها، وهذا شيء لم يعد بالإمكان ان نطلق عليه مناورة، فحتى على هذا المستوى لا فائدة من ورائه!
وعلى كلٍ فإن مما يزيدنا أسفاً ان القوى المعارضة ما تزال حتى على مستوى التكتيكات السياسية تعيش ففي العصور الوسطى!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة