نتائج سياسية أكثر أهمية!

كما أن نتيجة العملية الانتخابية الأخيرة في السودان تمثلت في أرقام وأعداد أصوات ونسب مشاركة فإن ذات هذه العملية أفرزت نتائج أخرى ذات مدلولات سياسية مهمة لا تقل أهمية إن لم تتفوق على الأرقام والنسب العشرية والمئوية.
أولاً، أثبتت العملية الأخيرة من خلال نسبة المشاركة التي بلغت 64.4% أن مجمل الشعب السوداني في حضره وباديته لم يتأثر كثيراً بالتقلبات والتجاذبات السياسية الجارية من حوله.
ما يزال غالب السودانيون يعضّون بالنواجذ على الثوابت الوطنية وفي مقدمتها المحافظة على المعادلة السياسية الوطنية وهي بحالة توازن معقول، ولهذا فإن العمود الفقري للسودان ما يزال كسابق عهده قوياً يحافظ على (الحد الأدنى) من السلامة الوطنية ويشجع الممارسة الديمقراطية بشيء من الأناة والتدرج فنسبة المشاركة تبين أن الحس السياسي السوداني ما زال معتدلاً لم يتطرف لا لصالح الحكومة ولا لصالح المعارضة. 
ثانياً، ظهور مجموعة المستقلين وفوزهم في دوائر مؤثرة لقوى سياسية أخرى يُستشف منه أيضاً أن النواة السودانية في عمقها المتمسك بالأصل ما تزال بعيدة عن العصبية الحزبية وهذه في الواقع ميزة سودانية خالصة، إذ لا ينكر إلا مكابر أن السودانيون وطنيون معتدلون بأكثر مما هم حزبيون متعصبون، وهذه الحقيقة في الواقع ربما كانت بمثابة تحدي لكل الأحزاب السياسية السودانية يميناً ويساراً إذ أن عليها أن تطرح أفكار قابلة للترجمة على أرض الواقع، وأن تتخلص من الطابع الطائفي وأسلوب القطيع الذي -للأسف الشديد- أمسك بخناق الممارسة السياسية في السودان لعقود خلت، وعرقل الممارسة الديمقراطية ولم يمنحها القدرة على التطور وتجاوز التحديات. 
فالنزوع إلى العمل السياسي المستقل لم يأت محض مصادفة عابرة، هو أمر يقوم تحدياً تاريخياً مستمراً للقوى السياسية السودانية .ثالثاً من النتائج المهمة أيضاً أن السودانيين لا يتأثرون مطلقاً بما تتخذه القوى الدولية من مواقف لتحريضهم على فعل شيء ضد بلادهم. 
لقد سعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وكندا بكل الوسائل للتأثير على المشاركة في العملية الانتخابية وإفشالها عبر إصدار بيانات وضغوط ولكن الناخبين السودانيون لم يتأثروا بها، نسبة المشاركة كانت عادية، ومعقولة بحيث يصعب على هذه القوى أن تدعي وقوع تزوير من قبل الحكومة، كما يصعب على القوى المعارضة التي دعت للمقاطعة تجاهل النسبة المعلنة، إذ أن المفارقة هنا أن نسبة المشاركة التي أعلنتها المفوضية اتخذتها قوى المعارضة كدليل على نجاح حملتها الداعية للمقاطعة، وهذا وحده يكفي! 
رابعاً، عدم استجابة المواطنين السودانيين للدعوة إلى الفوضى ونسف الاستقرار، إذ على الرغم من أن المناخ العام للعملية الانتخابية كان مشحوناً في بدايته بسجال محموم بين الحكومة والمعارضة وكانت الأخيرة تراهن على إفشال العملية ونسفها تماماً إلا أن المواطن السوداني –بوعيه السياسي الأخاذ– فوّت الفرصة على الطرفين؛ فلا الحكومة سعدت بالحصول على مشاركة بنسبة عالية تجعلها تفرح بهزيمتها لمشروع المقاطعة الخاصة بالمعارضة، ولا المعارضة سعدت بتدني نسبة المشاركة للإدعاء بأنها هزمت مشروع الحكومة. 
تتجلى حصافة المواطنين السودانيين هنا في أنهم اجبروا الطرفين على قبول نسبة المشاركة كل منهما يحاجج بها للتدليل على صحة موقفه. وأخيراً فإن النتيجة الإستراتيجية الأكثر شمولاً وأهمية أن الشعب السوداني شعب صعب المراس لا ينقاد لأحد، وإنما هو الذي يقود وهو الذي يقرر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة