يجب ألا تُتَّخذ الصعوبات التي تواجه عملية التحصيل الإلكتروني في بعض الوحدات المالية وخاصة في الولايات أو البطء في عمليات التحصيل والمعاملات الرسمية المختلفة، أو أية مشاكل أخرى، ذريعة لإجهاض هذا المشروع الحيوي الضخم الذي يُعدُّ مثل مشروع السجل المدني من أهم وأعظم المشروعات التي ستُحدث تحولاً حقيقياً في البلاد، فانتقال الدولة إلى عالم التحديث والحكومة الإلكترونية وضبط التعاملات المالية المحاسبية وزيادة إيرادات الدولة ومنع الفساد وتسرُّب الأموال الطائلة التي كانت تذهب هباء مع رياح التعدي و«اللغف» والاختلاس، لا يمكن أن يتم بطرفة عين دون أن تقع الأخطاء..
> فمهما كانت هناك عوائق أو اخفاقات في تنفيذ مشروع التحصيل الإلكتروني، فإنه أفضل آلاف المرات من النظام السابق عبر الأورنيك «15» الورقي الذي قُبِر ويريد البعث بعثه من مرقده مرة أخرى.. وليس هناك خيار غير المُضي في هذا المشروع، كما قال وزير المالية في البرلمان أول من أمس، فأي تراجع عنه أو تعويق له، يمكن أن يسبب انهياراً للاقتصاد وينتج عنه ضياع موارد الدولة وأموالها بالكامل، وعلينا ألا نسمع للأصوات التي تحاول تصوير ما يجري من عثرات أولوية وكأنها نهاية الدنيا، وأن بلادنا على مشارف يوم القيامة..
> لو لم تكن هناك صعوبات وأخطاء وعقبات كأداء وآثار جانبية في المرحلة الأولى لتطبيق التحصيل الإلكتروني، فلن ينجح المشروع، لأننا انتقلنا بالفعل إلى نظام وطريق مختلف تماماً. فمن الطبيعي ألا تكون كل التحضيرات كما ينبغي أو يحدث قصور في كثير من الجوانب المتعلقة بالتطبيقات وقلة الخبرة ونقص الكوادر والأجهزة. فمراحل الانتقال في كل مجالات الحياة، لابد من حدوث منقصات وعوائق فيها مهما كان الاستعداد والتحضير والتجهيز، وهذه من طبيعة الأشياء. وعملاً بالقاعدة الفقهية المعروفة (ما لا يُدرك كله لا يُترك جُله)، فلا يمكن للدولة أن تتراجع قيد أنملة عن هذا المشروع لمجرد وجود خلل هنا وأعطاب هناك. فمن قال إن كل شيء جديد لابد من إنجازه من ضربة البداية ومن الوهلة الأولى بنسبة 100% ، فأي إصلاح يمر بمرحلة فيها قليل من الخسائر والأخطاء، لكن يتم تلافيها في الممارسة العملية والتطبيق والمراجعات المستمرة.
> وبلد مترامي الأطراف كالسودان، ويُدار عبر حكم اتحادي ونُظم عتيقة في الإدارة والنظام الحسابي، تم خلال عقود من العمل بها على تكريس نمط التحصيل التقليدي بوثائقه الورقية ونقاط ضعفه المعروفة، لا يمكن أن تنتظم فيه العملية الجديدة والتحديث الراهن من أول وهلة، حتى لو تم تدريب كل العاملين في الدولة من محاسبين ومتحصلين ومراجعين تدريباً كاملاً ولفترة زمنية طويلة، فما كشف عنه وزير المالية من معلومات في البرلمان، أخطر بكثير مما كنا نتخيل. هناك «40» نوعاً من الإيصالات والأرانيك يتم من خلالها التحصيل ويقوم عليها «17» ألف متحصل غير معلومين للدولة، وتوجد وظائف وهمية غير مصدق بها، وما تورده الولايات لا يساوي إلا النذر اليسير من الأموال المتحصلة خاصة في المحليات والولايات، وقد سمعنا إفادات خطيرة من بعض الولاة والمسؤولين الحكوميين، عن الخلل الموجود في الفصل الأول المتضخم في ميزانية كثير من الولايات كلها أموال تذهب لأسماء غير موجودة أصلاً، ولأسماء لا علاقة لها بالعمل الوظيفي أسماء لموتى وأطفال وعجزة نساء مقصورات في بيوتهن يأتيهن الرزق الميري رغداً..
> من الطبيعي أيضاً ولا أحد يُنكر ذلك، أن تكون هناك جهات تقاوم عملية التحصيل الإلكتروني برمتها وتستميت في قتالها المقدس ضده، فهذه الجهات التي تعودت على المال المسفوح السائب واستمرأت التعامل بالوثائق والأوراق المزورة والقابلة للتزييف، لن ترضى عن هذا النظام ولو وفر للدولة ما يسد العجز في ميزانيتها ويمكِّنها من أداء واجباتها، ليس هناك مجموعات تمثل دولة عميقة فقط، إنما تورم سرطاني يفتك بالخلايا الحية للاقتصاد وبعظامه وأجهزته الحية حتى يموت ..!
> الواجب أن تتوحد الإرادة الوطنية من كل الجهات حتى يبلغ المشروع تمامه والتصدي لمن يهدمه، فإذا كانت الإيرادات في الفترة القليلة منذ تطبيق التحصيل الإلكتروني قد زادت وتمت محاصرة الفساد المتصل الذي كان يتعدى على المال العام واستغلال النظام التحصيلي السابق، فليس هناك عاقل ومواطن صالح يدعو للرجوع للخلف وترك الحبل على الغارب للفساد يفعل ما يشاء..
تعليقات
إرسال تعليق