قرار المحكمة الجنائية.. حجر في بركة مياهها الراكدة

بقلم : منال عبد الله عبد المحمود
أعمال القمة الأفريقية المعقدة في جوهانسبيرج بجنوب أفريقيا لقيت أصداء واسعة عقب ما جرى من أحداث على خلفية الطلب الذي تقدمت به المحكمة الجنائية الدولية إلى السلطات الجنوب أفريقية والخاص بتفعيل قرار المحكمة بحق الرئيس البشير ولم يكن طلب المحكمة هو الأول من نوعه، فقد سبق أن حدث في كثير من المشاركات الأفريقية التي يقوم بها الرئيس في سياق التفاعل مع الدول الأفريقية، وكان آخرها المؤتمر الذي عقد بنيروبي بكينيا، ومما هو يدعو إلى الدهشة أن المحكمة الجنائية قد تقدمت بطلبها هذا على الرغم من أن أحد أهم أجندة القمة المنعقدة هو مناقشة موقف الدول الأفريقية من المحكمة نفسها بل ومن اتفاقية زوما ونظامها الأساسي الذي بموجبه أنشئت المحكمة وهو ما يعني أن شرعية المحكمة نفسها هي موضع تساؤل في العواصم الأفريقية خاصة أن جل قراراتها وإداناتها قد كانت بحق رؤساء وزعماء الدول الأفريقية وكأن المحكمة قد أنشئت ابتداء من أجل القارة الأفريقية. وهو ما يشكل استهدافاً واضحاً للقارة السمراء وقياداتها برغم أن الانتهاكات التي تقوم بها كثير من الدول على مستوى العالم ضد شعوبها وضد كثير من الشعوب هي انتهاكات صارخة وواضحة للعيان ولا تحتاج حتى لدليل إذ هي تبرهن نفسها بنفسها، ولكن عين العدالة العمياء للمحكمة، إن كانت هناك عدالة أصلاً، لا ترى بأساً في كل ما يحدث.
تنعقد أعمال القمة الخامسة والعشرين للاتحاد الأفريقي بجنوب إفريقيا وهي تسعى إلى بعث جديد للقارة الأم من رحم المعاناة التي تعيشها شعوبها جراء الكثير من السياسات الخاطئة وأولها تدخلات العالم الخارجي في شؤونها الداخلية، ومنذ أمد بعيد حيث تتصدر أجندة القمة قضايا التنمية والاقتصاد، خاصة القضايا المتعلقة بالزراعة كما تناقش القمة قضايا الإرهاب الذي ينخر في جسد القارة السمراء ويعمل على تفتيت وحدة شعوبها وضياع مقدراتها في صراعات داخلية لا تبقى ولا تذر. كما وستناقش القمة مسألة غاية في الأهمية وهي التي تتعلق بالتكامل بين الدول الأفريقية في المجال الاقتصادي وتتأتى أهمية هذا الأمر من واقع أن العالم الآن وفي ظل التحولات العميقة التي طرأت عليه في تسعينيات القرن الماضي وأدت إلى بروز قوى عالمية جديدة تعتمد التكتلات الاقتصادية وتعول عليها في البقاء وسط عالم مختلف كلياً عما سبق.
تقول أن أمر الوحدة الاقتصادية الأفريقية والتكامل الاقتصادي أصبح ضرورة يمليها واقع الحال إن أرادت هذه الدول تحقيق أدنى قدر من التقدم والريادة، وبالضرورة تحقيق الرفاهية لشعوبها وتخفيف معاناتها.
ووسط كل هذا تأتي محاولة المحكمة الجنائية لتصرف الأنظار عن القضايا الهامة التي يجب أن تناقشها القمة، ولتفتعل قضايا انصرافية تجاوزتها العواصم الأفريقية حين قررت إعادة النظر في أمر نظام روما الأساسي برمته والانسحاب من المحكمة الجنائية التي لم ينضم إليها حتى عرابوها في واشنطن. وهو ما يبين حقيقة الاستهداف الذي تتعرض له شعوب العالم المسمى بالثالث، ويبين كذلك أن الدول الكبرى التي أقامت إمبراطورياتها على أشلاء الحرية والكرامة الإنسانية والتي تتزعم العالم الآن كنتيجة للخديعة التي مارستها بنظرياتها الرأسمالية وحديثها الفج عن الحرية والليبرالية، هذه الدول لا تعمل سوى على تدمير مقدرات الشعوب الأخرى من أجل أن تظل على القمة حتى وإن دفع الثمن الأطفال والنساء والعجزة في كل أنحاء المعمورة ويساعدها في ذلك إعلام مدفوع الثمن هو ذاته الإعلام الذي تناقل بالأمس الأول الشائعات المغرضة والحقائق المشوهة عن حقيقة ما يحدث في جوهانسبيرج ذلك النهار.
فلقد تلقفت الأخبار الملفقة وسائل الإعلام الدولية وساهمت بقدر كبير فينشر أحاديث الإفك، وخلقت بلبلة إعلامية مقصودة، أريد لها أن تنال من الكثيرين وعلى رأسهم الرئيس البشير، وأيضاً وبنفس القدر الرئيس الجنوب أفريقي وحكومته، بل وكل الرؤساء والزعماء الأفارقة وممثلي الدول الأفريقية الذين كانوا يعلمون جيداً أن أهم الأجندة التي ستناقشها القمة هو موضوع المحكمة الجنائية ونظام روما الأساسي ابتداء.
إن الأمر المقلق في كل ما سبق ليس هو ما قامت به المحكمة الجنائية من تحركات قصدت بها فقد رمي حجر في بركة قراراتها الساكنة، فهي تعلم يقيناً أن لا شئ مما فعلته سيغير من واقع كون قراراتها بحق البشير ستبقى حبراً على ورق، ولن تجرؤ دولة تحترم سيادتها وتحترم التزاماتها الدولية على تنفيذ شئ من ذلك. الأمر المقلق حقيقة هو أن أمر مشاركات الرئيس البشير في المحافل الدولية صار مصدر قلق للشعب السوداني، ليس لأنه يخشى عليه من ضعاف النفوس فقط ولكن لأنه يرى فيه الأمل الذي يعني بقاء السودان شعباً وأرضاً ودولة. فالبشير ما عاد رئيساً فقط ولكنه يمثل الآن شيئاً أكثر بكثير من ذلك في وجدان الشعب الذي يرى فيه قائداً يزرع الأمل في داخله من أجل مستقبل أجمل للبلاد. وما كان ما تداولته وسائط الإعلام الاجتماعي نهار وليلة أمس من قلق على الرئيس إلا نذراً يسيراً من شئ كبير يحمله الشعب لهذا الرجل عليه فإن على مؤسسة الرئاسة أن تراعي ذلك وأن تدرك تماماً أن البشير ليس مجرد رئيس في خاطرة الشعب، بل هو يعني أكثر من ذلك بكثير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة