الجنايات الدولية.. أين يكمُن الخلل المركزي للتجربة برمتها؟

المفارقة القانونية الكبرى في ما يتعلق بتجربة القضاء الجنائي الدولي -(محكمة الجنايات الدولية)- والتي تتخذ من مدينة لاهاي الهولندية مقر لها، أن الخبراء القانونيين الذين عكفوا على وضع وصياغة النظام الأساسي للمحكمة، فيما عرف بميثاق روما 1998

، وضعوا نظاماً أساسياً وإطاراً  عاماً وفي تصورهم الأنظمة القضائية والمحاكم الجنائية العادية للدول. بمعنى أدق فإن أذهانهم انصرفت -وطبعاً حدث ذلك بحسن نية- إلى إقامة نظام قضائي مماثل في إجراءاته وقواعده للنظام القضائي العادي لأي دولة، وكأن الأمر هنا يتعلق بنظام قضائي قائم في دولة!
واضعوا الميثاق تجاهلوا وأسقطوا من اعتبارهم، المصالح الخاصة ببعض القوى الدولية وتقاطعاتها المختلفة، وهي واحدة من أعقد الأمور التى يعاني منها المجتمع الدولي، في ظل سيادة منطق القوة، والاستهانة بالضعفاء. هذه النقطة يمكن اعتبارها النقطة المركزية الأولى في الخلل الرئيسي لفكرة إنشاء المحكمة ونظامها الأساسي، وكان يتعين على واضعي الميثاق أن يجيبوا -بمنطق موضوعي وأمانة- عما إذا كانت قوة أو ضعف الدولة المعنية سوف يتحكمان في إخضاعها لاختصاص المحكمة.
فالأمر لا يتعلق بأفراد، الأمر يتعلق بدول ومصالح دولية، وسيادة وطنية ومعاهدات إقليمية ودولية ملزمة وحصانات وسلسلة مطولة من العادات والأعراف الدولية التى ترسخت على مدى قرون وأصبحت جزء أساسي ومهم من القانون الدولي الحديث! فعلى سبيل المثال لم يوضع في الاعتبار كيف يتم تخطي القضاء الوطني للدولة المعنية والاستهانة به؟ وكيف يتم توقيف مسئول سيادي يتمتع بحصانة -وفق اتفاقية فينا 1959م- لدى تواجده في أرض دولة أخرى بما قد يتسبب في نشوب حرب بين الدولتين، أو على الأقل تعامل تلك الدولة بمبدأ المعاملة بالمثل ومن ثم تصبح حصانات المسئولين المقررة بين دول العالم في مهب الريح ويخضع لحسابات واعتبار بما يخالف منطق العلاقات الدولية.
هذا من جانب، ومن جانب آخر -وهو الأخطر- فإن واضعي الميثاق وفي مسلك مريب بمعنى الكلمة منحوا مجلس الأمن الدولي –وما أدراك ما مجلس الأمن الدولي– الذي يعج بالاعوجاج والمصالح والمحاباة وحق الاعتراض سواء لمزاج خاص أو لمصالح أو لأي اعتبار؛ أعطوه حق الإحالة بموجب الفصل السابع. وهو أمر موازي لحق النيابة العامة في أي دولة في إحالة دعوى جنائية إلى المحكمة!
مجلس الأمن بحسب النظام الأساسي للمحكمة تحول إلى (نيابة عامة)! أنظر المفارقة هنا، يحيل الدعاوي الجنائية إلى محققي محكمة الجنايات، والأدهي و أمرّ أنّ محققي محكمة الجنايات (مكتب المدعي العام بالمحكمة) لا يملكون قط حق عدم قبول قرار الإحالة؛ هم (ملزمون) بقبول قرار مجلس الأمن بإحالة الحالة أو الدعاوى المعينة إليهم، ومن ثم فإن مجلس الأمن هنا وبموجب نظام المحكمة الأساسي لم يقف فقط عن حد كونه أصبح (نائباً عاماً) يحيل الدعاوي إلى المحاكم و يلزم المحكمة الجنائية بالتحقيق فيها ورفع تقرير دوري له بما يفعل. لا، مجلس الأمن تجاوز كل ذلك ليصبح ما يسمى قانوناً بـ(السلطة الآمرة)، بمعنى أنه بمثابة (متابع ورقيب) على سير التحقيقات وسير إجراءات المحكمة، وحق (تجميد) الإجراءات لفترة من الزمن!
 كيف يمكن إنشاء قضاء جنائي دولي يلاحق مسئولين كبار يمثلون دولاً وينظر قضايا جنائية دولية خطيرة تصل عقوبتها للسجن مدى الحياة، وهو قضاء محكوم بمجلس الأمن الدولي، وبمصالح القوى الدولية ومزاجها الخاص؟ ما الذي كان يرغم واضعي الميثاق لخلق تعقيدات بهذا القدر العجيب في علاقات الدول وحقوق الأفراد والقوانين الدولية؟
 قد يقول قائل إن الجرائم الدولية قد انتشرت واتسع نطاقها ويذكرون تجربة (نورمبيرج) التاريخية التى أعقبت الحرب العالمية الثانية، وقد يذكرون جرائم يوغسلافيا السابقة، وهذا صحيح، هناك جرائم حرب تستدعي المحاسبة القضائية؛ ولكن كيف يمكن إنشاء تجربة قضائية دائمة تتوخى العدالة والمساواة و يُراد لها أن تكون محترمة، وهي محكومة بأهواء ومصالح القوى الدولية الكبرى؟
 ولعل الأكثر غرابة أن مجلس الأمن يغض النظر ولا يزال يغض النظر عن جرائم إسرائيل في غزة قبل أعوام قلائل والمحكمة الجنائية خاوية الوفاض من الملفات، ولم يقل أحد من واضعي الميثاق والدول الموقعة عليه، أن الأمر فيه خرق لمقتضى العدالة. الكل يعلم أن إخضاع فرد أو دولة أو مسئول كبير للمحكمة، مسألة ضعف أو قوة، أو مسألة محاباة أو حظ، وليست مسألة عدالة وسيادة قانون، ومع ذلك تجد من لا زالوا يراهنون على تجربة كهذه لإرساء قضائي دولي ناجح!
 أما الجانب الثالث، فهو مدى تمتع قضاة ومحققي المحكمة وموظفيها بالقدر اللازم من النزاهة و الاستقامة، وهي ثالثة الأثافي، إذ أن الأمر هنا لا يتعلق بالمسلك الشخصي الخاص بالقاضي ومدى استجابته للمغريات أو وقوعه تحت ضغوط أو ضعفه الأخلاقي وغياب ضمير. لندع كل ذلك جانباً ولنتساءل عن (الجهات المساعدة) لهؤلاء القضاة في أدائهم لعملهم. الجهات التى تتولى تمويلهم! الجهات التى (تجري اتصالات) سرية أو معلنة معهم بغرض تسهيل مهمتهم. من يدير حساباتهم المصرفية الخاصة؟ كيف يتقاضون مرتباتهم وهل بالإمكان أن تدفع (دولة ما) مرتبات قضاة المحكمة، وتقدم بيمينها ما لا ترى شمالها؟
 هل هناك دولة الآن في العالم تقدم شيئاً، مالاً كان أو دعماً مجانياً، وبنية الصدقة؟ من المؤكد أن تجربة القضاء الجنائي الدولي -من الأساس- لم تكن فكرة سديدة، كان الجميع يعلم أن محكمة كهذه لن تكون سوى مؤسسة دولية مليئة بالثقوب. الغريب أن الجمعية العامة للأمم المتحدة ظلت ومنذ عقود تطالب بإصلاح الأمم المتحدة ولم تنجح، فكيف إذن تنجح تجربة قضائية دولية في ظل نظام دولي مختل ويعاني تشوهات وثغرات بغير حدود؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة