الذين أساءوا الظن بل وبعضهم ما زال يسوئه بالحوار الوطني ظناً منهم أنه
محض جدال سياسي لقوى محدودة لن يقدم ولن يؤخر ولذا أحجموا عن المشاركة
فيه، ثم أخذتهم (العزة بالإثم) حينما بدا لهم، بعد مرور اشهر على وقائع
الحوار أنه بات فاعلاً ومؤثراً وسوف تعقبه متغيرات مفصلية، ثم عادوا الآن
-بعد اتضاح الرؤية- يتمنون فشل مخرجاته ونتائجه، فقط ليقولوا للآخرين، ألم
نقل لكم؟ هؤلاء -للاسف الشديد- أخطئوا في حساباتهم وأساءوا تقدير الامور،
ليس لأن ثقتهم في انفسهم وفى الآخرين كانت مهتزة، ولكنهم أساءوا التقدير
لأن مفهومهم (الأوحد) لأي عملية الحوار او تفاوض اسقاط النظام، وإقامة فترة
انتقالية، ثم انتخابات عامة!
هذا المفهوم السياسي الخاطئ المتوارث
سياسياً طوال الحقبة التاريخية الماضية افسد وإلى حد كبير الذهنية السياسية
الوطنية للعديد من القوى السياسية خاصة تلك القوى التي يكون لها في يوم من
الايام حظ الحصول على ثقة الناخب السوداني، وحتى الذين حصلوا على تلك
الثقة إما أنهم تلاعبوا بها عندما تحملوا مسئولية الحكم، أو انهم حصلوا على
قدر ضئيل منها يكشف عن وزن ضئيل ليس من حقه فرض رؤاه على الآخرين.
لن
نغالي ولا نبالغ ان قلنا ان غالبية القوى المعارضة التي رفضت الحوار الوطني
وأدهش الكثيرين بما في ذلك قواعدهم القديمة كانوا ولا يزالوا يعتقدون ان
كل الازمة في السودان أنهم ليسوا هم الذين يحكمون! فإذا ما آل اليهم الحكم
-بقواعدهم القديمة ودوائرهم المقفولة تاريخياً- فإن هذه هي الديمقراطية
الحقة، وهذا هو الحل للأزمة!
بعض آخر؛ وهم عموم اليسار لديهم أماني
سياسية مثيرة للشفقة ان يتنازل الحاكمون عن السلطة ويتركوهم هم في سدة
المشهد، مع أن هؤلاء (اليسار عموماً) ظلت كل تجاربهم السياسية في السودان
وفي غير السودان مع الانظمة الشمولية! ولا أحد في حاجة الى أمثلة ونماذج
وفذلكات تاريخية.
وبذا نستطيع ان نقول في ذات إطار الحرية ان أولى
درجات الممارسة الديمقراطية ممارسة الحوار والنقاش والعصف الذهني والفكري
بموضوعية وتجرد. ولم يكن ولن يكون مهماً على الاطلاق -اذا كان الهم هم
التأسيس لممارسة ديمقراطية راشدة- النظر إلى ما بعد الحوار ومن يستمر في
الحكم وكيف يستمر ومن يحاصص.
كان وما يزال المأمول والمطلوب هو ان
تناقش قضايا البلاد بتجرد وموضوعية، وتوضع نتائج ووثائق نهائية هي خلاصة ما
تم التوصل اليه ومن ثم يصبح ما تم التوصل اليه هو الاساس الذي تنطلق منه
المنازعات السياسية بين كافة الاطراف. وتصبح مخرجات الحوار -نفذت أم لم
تنفذ- هي (النظام الاساسي) والدستور السياسي الحاكم لتصرفات القوى السياسية
في المرحلة المقبلة.
وما دام ان هؤلاء لم يفهموا بهذه الروح وهذه
الذهنية مشروع الحوار الوطني واعتبروه مجرد (طق حنك) كما قالوا وانحصر كل
همهم في إسقاط الحكومة، فإن من الظلم والاجحاف البين ان ينتظر هؤلاء ثمار
غرس لم يشاركوا فيه، كما أن من غير الديمقراطية ان تناهض مشروعاً وطنياً
للرأي والرأي الآخر -داخل وطنك- ثم تجلس وتنتظر مشروعاً آخر يأتي من الخارج
في شكل (منحة) أو قرض مثقل بالفوائد السياسية والفوائد الباهظة التي لا
تنقضي!
تعليقات
إرسال تعليق