الجبهة الثورية وقصة الرحلة الأوربية الباردة!

فى العاشر من أكتوبر الماضي وبمدينة زيورخ الألمانية، كانت مقدمات زيارة وفد الجبهة الثورية الى بعض الدول الأوربية قد بدأت نُذرها تلوح فى الآفاق، ففي ذات ذلك اليوم كان قد تم الإعداد لوقفة احتجاجية أمام مقر الامم المتحدة فى زيورخ ينفذها بعض منسوبي حركات دارفور المسلحة (العدل والمساواة، حركة عبد الواحد نور، حركة مناوي) على أن يتم تسليم مذكرة للبعثة الدبلوماسية السودانية هنالك بالتوازي مع الوقفة الاحتجاجية.
الموساد الإسرائيلي كان قد وضع آخر اللمسات لدفع عجلة التظاهرة الدارفورية هناك لتفتح الطريق لوصول الوفد الكبير ولهذا فإن الموساد تكفل بدفع كافة تكاليف التظاهرة والبالغة 85 ألف دولار الى مندوبين يتبعون لهذه الحركات، الأمر الذي أثار غباراً كثيفاً، وما يزال يثار حتى الآن وسط منسوبي هذه الحركات بزيورخ متسائلين وبإلحاح عن الوجهة التى ذهبت إليها هذه الأموال، والوقفة الاحتجاجية لم تدم سوى لدقائق معدودات، بقليل من اللافتات، وبعض الأوراق والملصقات!
كانت تلك هي الخلفية التى إستهلَّ على أساسها وفد الجبهة الثورية زيارته الى العواصم الأوربية والتي بدأت اعتباراً من منتصف نوفمبر الماضي الى أواخره.
وقبل أن نتقصّى تحركات الوفد ولقاءاته هناك من الضروري أن نشير الى أن الوفد - سواء باقتراح منه، أو باقتراح من مسئولي الدول الأوربية التى زارها، فقد تخيّر توقيتاً بالغ السوء حيث فصل الشتاء وما يتبعه من مترتبات خاصة بالطقس تعيق النشاط والحركة كما أنه -وباعتباره نهاية العام الميلادي- تكثر فيه الأعياد الغربية ومواسم الإجازات.
ولكن كانت تلك هي معطيات الرحلة الشاقة البادرة والتي إستهلّها الوفد بالعاصمة الفرنسية باريس منذ الثالث من نوفمبر وكان تكوين الوفد هو ذات تكوين قيادة الثورية، ياسر عرمان، التوم هجو، نصر الدين الهادي، وقد تعثر حظ قادة الثورية حين صُدِموا بأن اللقاءات التى نُظِّمت لهم فى باريس لم تأخذ أيّ طابع رسمي، فحتى اللقاء الذى جمعهم بمدير إدارة شمال أفريقيا بالخارجية الفرنسية تم فى إطار اجتماعي، خارج المؤسسات الرسمية وبلا محاضر مكتوبة ولا أجندة محددة.
ويبدو أن هذا الوضع أثار إحباطاً بدرجة ما لدى قيادة الوفد فقرر على الفور اللجوء الى الأجهزة الإعلامية المتاحة عبر راديو فرنسا الدولي، ومونت كارلو وقناة العربية للحديث عن حقوق الإنسان فى السودان وتجاوزات الحكومة السودانية فى مناطق النزاعات والحديث عن دعم السودان للإرهاب وعلاقة السودان بإيران، ودعوة باريس لتبني دور فاعل فى أزمة دارفور، والدعوة الى تسوية سلمية تنهي النزاع بين الثورية والحكومة السودانية؛ وحشد الدعم من السودانيين الموجودين فى المهجر لدعم أهداف الجبهة الثورية.
كانت هذه الخطة الإعلامية هي الأخرى غير موفقة، إذ سرعان ما صرّح المسئولين الفرنسيين بأن ما جرى بينهم وقادة الوفد ليس عملاً رسمياً وأنه لا وجود لأيّ طرح جديد لتجاوز وثيقة الدوحة بشأن الأزمة فى دارفور.
تصريحات المسئولين الفرنسيين كانت كافية لتدفع الوفد لتجريب حظوظه فى بلدان أوربية أخرى، فقد حرص ياسر عرمان حرصاً مبالغاً على الحفاظ على معنويات الوفد تارة بإطلاقه للقفشات، وتارة بالتأكيد على أن الاتحاد الأوربي سوف يدعم فى خاتمة المطاف كل مخرجات ونتائج الرحلة ومطالبهم المشروعة!
وعلى ذلك انطلق الوفد الى وجهة جديدة، هذه المرة الى روما عاصمة ايطاليا، ولشعور الوفد بشيء من الحرج السياسي وبعض هواجس الفشل، فقد تكتم على الزيارة ولم يعلن عن الزيارة الى روما إلاّ قبل يوم واحد منها حيث وصل إليها فى الرابع عشر من نوفمبر، وكانت فترة اليوم الواحد التى سبقت الزيارة كافية ليعد منظمو زيارة الوفد -وهي مجموعة تطلق على نفسها (إيطاليين من أجل دارفور)؛ برنامجاً حافلاً يشمل دوائرَ رسمية ومنظمات مجتمع مدني إيطالية.
وبالفعل وصل الوفد فى الرابع عشر وأمسية الثالث عشر من نوفمبر وجرى استقباله من قبل أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة من ناشطي دارفور هناك وحط رحاله بفندق مغمور وسط المدينة روما.
كان الوفد بكامل هيئته هذه المرة بمن فيهم مالك عقار واستهل الوفد لقاءاته بلقاء فى مجلس الشيوخ الايطالي، ولأنّ الوفد ذاق الأمرّين فى باريس ولم تجد مناشداته صدىً هناك، فقد عقد العزم هذه المرة هناك فى روما على أن يتخذ تكتيكاً أكثر سخونة ولهذا أوكلت مهمة الحديث إنابة عن الوفد للسيد مني أركو مناوي فانتهز الأخير الفرصة ليطلق تحذيراً شديد الدويّ، يؤكد فيه أن السودان على وشك الدخول فى حرب أهلية واسعة النطاق، ثم يكيل السباب والاتهامات للحكومة السودانية وإرتكابها لجرائم حرب وكيف أفشلت حملة تطعيم الأطفال ورفضت فتح ممرات آمنة لتمرير الإغاثة وأنهى حديثه الساخن بالمطالبة بإسقاط النظام فى الخرطوم بدعم ومساعدة من المجتمع الأوربي والايطاليين.
ولأن الحديث كان ساخناً وملتهباً فقد أجرى السيناتور الايطالي -عضو مجلس الشيوخ- (روبرت كوشا نشيك) مداخلة وعدَ خلالها بتقديم (سؤال برلماني) بإلزام حكومة ايطاليا بالعمل على الحيلولة دون اندلاع حرب أهلية فى السودان!
ولنا أن نتصوّر أن الوفد وبعد أن أفرغ كل ما في جعبته وساح طويلاً فى التهديد والوعيد لم يحصل فى خاتمة المطاف سوى على (سؤال برلماني)، هدفه قيام ايطاليا بالحيلولة دون نشوب نزاع أهلي دامي فى السودان!
وبالطبع لم يعلق قادة الوفد على (سؤال) السيناتور البرلماني، فقد كونوا ما زالوا يؤملون على إتساع رقعة إيطاليا، وبقية دول أوربا إذ لربما وجدوا ضالتهم فى واحدة منها، وما يزال الوقت مبكراً على الرحلة، ولهذا ففي اليوم التالي مباشرة توجه الوفد وهو يحدوه أمل أكبر وأمنيات تتجاوز (سؤال السيناتور البرلماني) الى الفاتيكان، تلك الرقعة الهادئة الغامضة فلربما قرعت لهم أجراساً ذات أنغام سياسية أفضل، ولربما أخرج الفاتيكان بياناً حاداً شديد اللهجة يشفي الغليل.
ولكن اللقاء فى الفاتيكان جرى ببعض مسئولي دائرة العلاقات الخارجية، ولم يجد هؤلاء (شيئاً ذي بال) فى ثنايا حديث الوفد لأنه لم يكن من بينهم مسيحياً يحمل الصليب ولا كان هناك خطر على المسيحيين فى السودان، والأمر بالنسبة لهم يتعلق (بقضايا سياسية خاصة)!
ولم ينشرح صدر أعضاء الوفد أيضاً هذه المرة، على الرغم من أن اللقاء فى الفاتيكان إمتد للقاء آخر مع منظمة يطلق عليها (سانت يجيدوا) لها حيز فى الهيكل الإداري للفاتيكان ومدير العلاقات الخارجية فيها تربطه صلات وثيقة بكلٍ من عبد الواحد محمد نور ومني أركو، ولكن حتى هذه المنظمة التى تعني بالعربية (جماعة القديس إيجيدو) لم تكن عند حسن ظن أعضاء الوفد ولم يجدوا لديها أكثر من إبداء التعاطف و (الدعاء للرب) لنصرة الثورية!
ولكي يتم مسح الرهق والشعور بالفتور السياسي فإن الإعلام الإيطالي منح عبد الواحد لقاءً مع قناة ( Rai News 24 ) أتاح له الحديث المعتاد عن انتهاكات الحكومة السودانية، وفرص السلام فى السودان ومفاوضات والدعم المطلوب من الدول الأوربية، وما أن فرغ عبد الواحد من اللقاء التلفزيوني حتى تلقفته مديرة منظمة ايطاليين من أجل دارفور ولأنّ الحكومة الايطالية حددت على الوفد خطوطاً معينة للقاء مع منظمات المجتمع المدني، لم تجد مديرة المنظمة سبيلاً لإلتقاء عبد الواحد سوى فى (مطعم) بوسط روما؛ تبادل فيه الطرفان الحديث عن مشاريع المنظمة وأهداف زيارة الوفد. وبدا واضحاً أن العلاقة بين الطرفين ما تزال تتسم بقدر من البرود، فقد سبق وأن وقعت خلافات فيما بينهما فى السابق لم ينجح اللقاء على أنغام المطعم الهادئة فى إزالته أو حتى التقليل من عنفوانه.
ولهذا، اتجه عبد الواحد من لقاء المطعم الى مقر منظمة (أرشي دارفور) حيث مدراء مكاتب الحركات الدارفورية فى روما ولم يكن اللقاء مريحاً من الناحية التنظيمية واقتصر على انتخاب أعضاء جدد فى المكتب التنفيذي ولم تنجح عبارات عبد الواحد الشديدة السخونة فى إضافة منشط جديد، أو خلق روح أفضل لدى قادة هذه المكاتب واضطر عبد الواحد فى نهاية حديثه لمّا لم يجد ما يقوله لمطالبة الحركات الدارفورية بأن (تتوحد) لتصبح شيئاً واحداً، ناسياً بطبيعة الحال، أنه هو المعني بهذه الوحدة أكثر من غيره!
ولأن البرنامج العام للزيارة لم يعد كما كان مأمولاً فقد واصل أعضاء الوفد لقاءاتهم مع جهات عديدة بغرض الزخم الإعلامي فقط، حيث التقى الوفد بإبراهيم طه أيوب، وهو وزير خارجية سابق فى حكومة مايو. كان اللقاء اجتماعياً، لم يزد عن الأنس ومعاناة الغربة والأمنيات المعهودة!
غير أن صعوبات غير متوقعة سرعان ما واجهت الوفد فى بيت اللاجئين حيث احتج أعضاء حركة عبد الواحد على مخاطبة مناوي لهم واضطر عبد الواحد للإعلان أن اللقاء إنما يجري باسم الجبهة الثورية ومن ثم خاطبهم هو ثم أعقبه مناوي.
ولم تنجح كل محاولات التجميل والتزويق التي أضفيت على هذه الزيارات فى الخروج بنتيجة ايجابية تتمثل فى قرار من حكومات الدول الأوربية بدعم الجبهة الثورية، فقد مضى الأمر بذات الوتيرة فى ألمانيا وذات الأمر فى هولندا وأضطر الوفد فى كل مرة لعقد لقاءات مع بعض منسوبي الحركات هناك والنقاش معهم، فى ظل قواعد صارمة وضعتها حكومات هذه الدول منعت فيها الوفد من أيّ لقاء رسمي فى دواوين حكومية، كما حظرت لقاء أي مسئول بهم فى مقر إقامتهم بالفندق المتواضع وسط المدينة.
كانت بحق رحلة شتوية باردة، تكبد فيها الوفد مشاق السفر ووعثائه دون أن يظفر بشيء جديد، فلو كانت القضية قضية لقاء إعلامي أو تلفزيوني هنا أو هناك فإن الأمر فى عهد التقنية الفضائية المتاحة لم يكن يستحق كل هذا العناء!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صناعة الزيوت في السودان.. التحديات والحلول

أطراف الصراع بجنوب السودان.. بين مطرقة التعنت.. وسندان الحرب

الحركات المسلحة في دارفور وفقدان البوصلة