بالطبع لا أحد بوسعه التكهن بطبيعة الدوافع التى حدت بالقيادي المعروف فى
ما يسمى بالجبهة الثورية، نائب رئيس حزب الأمة القومي، نصر الدين الهادي
المهدي لانتقاد (جبهته الثورية) والاعتراف علناً – بين دبلوماسِييّ السفارة
الأمريكية فى كمبالا ورفاقه فى الثورية، بالمجازر التى ارتكبوها فى أبو
كرشولا قبل أشهر.
وحين نقول لا أحد يعرف دوافع هذا الاعتراف والانتقاد
(غير المتوقع) فإننا نعني ذلك تماماً لأن جريمة أبو كرشولا لم تقع بالأمس
أو اليوم إنما وقعت قبل أشهر، فلماذا لزم نصر الدين الصمت كل هذه الأشهر؟
هل كان يجهل أبعاد الجريمة؟ هل كان يخشى (جهة ما) فى الثورية؟ هل كان الرجل
(لديه ضمير) وقد نام كل تلك الفترة ثم استيقظ فجأة ذات نهار فى كمبالا؟ لا
أحد يعرف، ولكن من الواضح أن هنالك دوافع يمكن قراءتها وترجيحها.
أولاً،
جاء الإقرار والاعتراف بجرائم أبو كرشولا من قبل نصر الدين (داخل السفارة
الأمريكية فى كمبالا). ولربما ساور الرجل اعتقاداً -صحيحاً أو خاطئاً- بأنه
(فى مأمن) وعلى الأقل هو (في أرض أمريكية) ربما وفرت له الحماية ولو فى
اللحظة نفسها ثم بعد ذلك (هو وحظه), ولعل ما قد يدعم هذه الفرضية أن
الدبلوماسيين الأمريكيين الذين حضروا اللقاء – جنباً الى جنب مع بقية قادة
الثورية – استحسنوا ما قاله نصر الدين وانشرحت نفوسهم له بما يشي بأنهم
وفروا له الحماية أو شجعوه على إعترافه، ففي النهاية فإن الاعتراف على
الأقل (سيد الأدلة) بالنسبة لنصر الدين نفسه.
نصر الدين فى الواقع أعطى
الأمريكيين (ورقة بيضاء) بجرائم ثوريته، ووضع نفسه فى موضع خطير للغاية إذ
ليس الأمريكيين مجرد رجال أطهار يعملون فى كنيسة كاثوليكية ويتلقون
اعترافات المذنبين. من المؤكد أن الأميركيين (استثمروا) جيداً فى الاجتماع
من جهة؛ والإقرار النادر من جهة أخرى وهذا ما يجعلنا نعتقد أن غالب أمثال
نصر الدين من (العناصر الهشة) حقاً وحقيقةً، فقد سقط أولاً فى شبكة الثورية
لم يردعه عن المضي قدماً فيها أية رادع، ثم عاد ليسقط فى يد الأمريكيين
بحثاً عن مهرب!
الأمر الثاني الأكثر رجحاناً أن نصر الدين استشعر
(نهايات الثورية) سواء بالتقارب السوداني الجنوبي الوشيك -حتى ولو لم يكتمل
تماماً- أو جراء الهزائم المتلاحقة التى ظلت تلحق بالثورية ولهذا رأى أنها
خاسرة وطالما أنها خاسرة خاسرة لا محالة فإن اعترافه بما إرتكبه من جرائم
لا يغير من الأمر شيئاً، إذ لن يضير الأعور –كما يقول المثل إصابته من جديد
فى ذات عينه المصابة!
نصر الدين أصابه قنوط من جراء تباعد الشقة بينهم
وبين الوصول الى القصر المطل على النيل فى الخرطوم فهاهو فصل الخريف يبدأ
عده التنازلي للإنقضاء ولم تحقق الثورية شيئاً من التقدم الذى كانت حساباته
قائمة على فصل الخريف.
الأمر الثالث أن نصر الدين الهادي بدأ يشعر
(بالغربة السياسية) وهو شعور بالغ القتامة أن تكونَ داخل ديار ليست ديارك
وتتحدث بلغة سياسية غير متداولة وطنياً وتجالس أناس لا يهمهم أن يحصدوا
أرواح السودانيين على بكرة أبيهم دون أن يطرف لهم جفن، وهو للأسف الشديد
شعور متأخر للغاية وربما كان مردّه أن الرجل حين خرج وإلتحق بالثورية كانت
تقديراته أن الأمر لن يستغرق أسابيعاً أو أياماً معدودات وتسقط الخرطوم فى
حجر الثورية كتفاحة ناضجة!
وعلى كلٍ فإن البكاء المتأخر، وبعد فوات
الأوان وضع الرجل فى محنة سياسية حقيقة فهو منذ تلك اللحظة أصبح (عدواً
لأصدقائه) فى الثورية، وقد حرق مراكبه السياسية وراءه بالداخل، وواشنطن
ليست مستعدة لشراء عميل محترق وبثمن بخس هم فيه من الزاهدين!
تعليقات
إرسال تعليق