جوبا والفيضان السياسي المدِّمر!
وحدها قيادة الحركة الشعبية الحاكمة فى دولة الجنوب من يتحمل وزر
الفيضانات السياسية المدمرة والسيول التنظيمية التى
اجتاحت الدولة
الوليدة مؤخراً.
فمن جهة أولى فإن القيادة الجنوبية (نسيت نفسها) وانخرطت فى عمل أخرق بالغ الخطورة ضد السودان. قيادة الحركة الشعبية (استهانت) بمسئوليتها السياسية تجاه مواطنيها واستهانت بحجم
التحديات الجسام التى تنتظر الدولة الوليدة وركزت كل جهدها فى معاداة جارها السودان، الدولة الأم التى
منحتها استقلالاً
سياسياً (بأقل من سعر التكلفة) أملاً فى إنهاء حالة الحرب وإعادة الاستقرار الى المنطقة بعد حرب دامت لما
يجاوز النصف قرن!
لو أن قادة الحركة الشعبية فى جوبا كانوا ساسة بحق لكان فى وسعهم كسب السودان وفى الوقت نفسه كسب بلادهم
وتقدمها ورفاهية شعبها والغريب هنا أن قيادة الحركة الشعبية مع أنها جربت الانقسام والانشقاقات وخاضت تجارب مماثلة فى وقت الحرب وبعد الحرب (انشقاق
د. لام أكول الأخير) إلا أن ذلك لم يمنعها من (نسيان التاريخ ونسيان نفسها تماماً).
من جهة ثانية فإن قادة الحركة الشعبية وبسذاجة يحسدون عليها اعتقدوا أن وقوف واشنطن وتل أبيب ومعظم دول الغرب
معهم معناه أنهم محصنين -داخلياً- ضد الانقسام والخلاف وما دروا أن القوى الدولية الكبرى وبقدر ما تقف
مساندة لنظام
حكم ما فى دولة ما، تقف فى الوقت نفسه وهي حريصة على اللعب والتلاعب بقادة الدولة المعنية بغية إحكام سيطرتها
تماماً عليهم بحيث لا يشعر أي قيادي من بين القادة انه مسنود من هنا أو هناك أو أنه يعمل وفق ما
يشتهي وهذه النقطة فى
الواقع تعد بمثابة القشة التى قصمت ظهر بعير الحركة الشعبية
فهي اعتقدت أن فى السياسة (صداقة دولية دائمة) وأن مع
جارها السودان (عداوة دائمة) ولم
تحسب حساباً للمصالح ولتقاطعات المصالح وتنافر التوجهات
حتى داخل البيت الواحد واللعب الماهر الذى تلعبه
المخابرات الأجنبية.
من الغريب لمن يفتح بيته للمخابرات الأجنبية من كل نوع أن يشكو ويصرخ
من أفعالها! ومن جهة
ثالثة فإن طبيعة تكوين الحركة الشعبية نفسها والطابع
القبلي الموغل فى التخلف كان قميناً بأن يجعل قادتها فى
حالة توجس وتفرُّق وإن بدا ظاهرياً غير ذلك فقبيلة الدينكا دون شك هي المهيمنة على كل شيء
ومن الطبيعي أن يتجه
الرئيس الجنوبي المنحدر منها الى الحد من نشاط القبائل
الأخرى وهذا فيه مؤشر مهم أن الدينكا سوءا حاضراً أو
مستقبلاً لن يرتضوا مطلقاً أن يحكم دولة الجنوب من هو خارج قبيلتهم ولنا هنا فى نموذج
الدكتور رياك
مشار أسوة حسنة فالرجل المنحدر من أثنية النوير واتاه طموح بأن يقفز على سدة الرئاسة.
الدكتور مشار اعتقد أن القضية (قضية ديمقراطية) وأن المال والنفوذ
وقليل من الدعم الدولي
كفيلان بأن يحملانه الى سدة الرئاسة وجاهرَ بذلك وبدأ في
تلميع نفسه لنيل حلمه ناسياً أنه يتخطى بذلك النقطة
الحمراء الحرجة. وذات الشيء يمكن مقايسته بشأن الأمين العام للحركة باقان أموم فهو ينحدر من قبيلة الشلك وهي فى سلم أدنى بكثير من
النوير واللاتوكا، ومن ثم فهو فى القاع بالنسبة للدينكا.
وهكذا فإن العامل القبلي و بطريقة بالغة الحدة سرعان ما أطل برأسه
ليقضي أول ما يقضي على
تماسك الحركة الشعبية كسيل جارف مندفع من أعالي جبال
الأماتونج. إن أزمة جنوب السودان كدولة وليدة أنها دولة
لا يمكن إلا أن تعيش على أساس موازنات قبلية وهذه الموازنات الآن اختلّت ولن يجدي معها
أي إصلاح طالما أنها
انفجرت وتفجرت وغمرت بسيولها الأرجاء.
تعليقات
إرسال تعليق