من الطبيعي أن ترفض الصين -صراحة أو ضمناً- نقل النفط الجنوبي عبر كينيا.
وهو رفض غير مرتبط بأي توجه سياسي أو نظرة سياسية، لأن الصين كما عُرفت على
امتداد العالم وطوال تاريخها، تباعد دائماً بين مقتضيات السياسة والقضايا
الاقتصادية والاستثمار.
لكن الرفض الصيني – سواء من الناحية الفنية
(طول المسافة وصعوبة الطريق ووعورته العملية)، أو من ناحية الجدوى
الاقتصادية والديمومة، أو النواحي الأمنية، كلها عناصر مدروسة بعناية من
جانبها وأدركت منذ ولوجها لعالم الاستثمار فى النفط فى السودان إن النفط
المنتج فى الدولتين لا سبيل لتصديره سوى عبر ميناء السودان المعد لهذا
الغرض.
ولهذا فإن الصين حين حثت جوبا -بدبلوماسية ناعمة- على نسيان
مرارات الماضي والانخراط فى علاقات تعاون ايجابي كما قال بذلك المبعوث
الصيني للشئون الإفريقية (زونغ جيان) ضمن حديثه فى المؤتمر الدولي لشرق
أفريقيا فى برلين الأسبوع الماضي، إنما تفعل ذلك لتلفت نظر جوبا -بلطف- الى
أن الحل واحد وباب الخروج من المأزق بيد جوبا.
ويمكن قراءة نصيحة
المبعوث الصيني هذه ضمن حرصها على أن تحافظ جوبا على موردها النفطي وتفيد
وتستفيد منه، بدلاً من أن تقوم بإدخاله فى أنبوب سياسي بالغ الضيق، وتهدر
عائداته هدراً! ولعل من المهم هنا أن نشير الى أن جوبا التى ما فتئت تفكر
وتعيد التفكير فى الطريقة المثلى التى تخرج بها نفطها من الأنابيب
السودانية تنسى وتتجاهل أن القضية ليست بكاملها فى إغلاق صنبور النفط من
عدمه، وإنما القضية فى (حاجة) جوبا الماسة للغاية -وإن نكرتها- فى أن تنشئ
علاقات جيدة مع الخرطوم بحكم مقتضيات الجوار من جهة؛ وبحكم الرابط التاريخي
الكبير بين الدولتين والذي يصعب فصمه من جهة ثانية، فالغذاء الجنوبي
بكامله مرتبط بالسودان والبضائع والسلع الضرورية بأكملها لا سبيل سوى جلبها
من الخرطوم سواء بسبب قصر المسافة وقلة الكلفة أو الجودة والاعتياد
واستمرار ارتباط المواطن الجنوبي بالسلع السودانية.
كما أن العامل
الأمني الذي تستهين به جوبا غاية استهانة من واقع نظرتها الى حلفائها
الكبار -واشنطن وتل أبيب- هو عامل خطير ومؤثر لا يمكن للدولة الوليدة إذا
تحلت بالعقل أن تتجاهله، ويكفي الآن فقط أن نرى ونعايش بداية صراع ذي منحى
قبلي سياسي داخل قيادة الحكومة الجنوبية نفسها والذي تمثل في سلسلة إيقاف
مسئولين كبار بتهم الفساد ظاهراً ولكن لأسباب تعود الى صناعة القرار
باطناً.
هذه الخلافات يمكن أن تتطور على المدَيَين القريب والمتوسط
لتصبح عاملاً هداماً لأمن الدولة الجنوبية حتى ولو كانت تسند ظهرها لحفائها
الكبار، ففي النهاية لا يكون لواشنطن أو تل أبيب أدنى مصلحة فى حماية
المنظومة الحاكمة مهما كانت قيمة أي فرد منهم أو مجموعة إلا بقدر ما يحقق
مصالحها، وهذا ما يحتم أن تحرص جوبا على ترتيب ملفها الأمني مع السودان لأن
من الممكن أن يتحول المتمردين الذين تدعمهم إلى أعداء للسلطة الحاكمة فى
جوبا فى وقت من الأوقات إذا ما دار صراع حامي الوطيس بين القادة، وهو صراع
بانت نذره، وبات وشيكاً للغاية.
الصين إذن قرأت كل هذه الحيثيات
والخلفيات السياسية المهمة وراء الصورة السياسية العامة للعلاقات السودانية
الجنوبية ونصحت جوبا بما يتعين عليها أن تفعل. وبهذا فإن بحث جوبا الدءوب
عن (مخرج طوارئ) آخر لإخراج نفطها كلية من معادلة علاقات البلدين ما هو إلا
تسكين للألم وليس معالجة جذرية للداء الفتاك الذي يستشري الآن فى جسد
الدولة الجنوبية المنهك.
تعليقات
إرسال تعليق